من أبرز الشعارات التي رفعتها ثورة 14 جانفي والتي خطّها «الشباب» على الجدران في العديد من المدن والقرى ان «لا خوف بعد اليوم».. انزياح جدار الصمت والقهر والظلم، وانفلات الناس جميعا عن عقال الوصاية والتهميش واندفاعهم الحماسي والجماعي الى «تقصي الحقائق والملفات والبحث في تفاصيل المشهد السياسي والحزبي والأمني والاجتماعي والاقتصادي، رسمت الطريق أمام حياة جديدة للتونسيين. لم يعد بالامكان اليوم، لأي جهة ولأي طرف سواء في السلطة أو في الأحزاب أو من النخب تكميم أفواه الناس وحجب الحقيقة عنهم وتعمية الوقائع عن أنظارهم واهتماماتهم او الركوب على تطلعاتهم وطموحاتهم وانتظاراتهم. وعلى الرغم مما يدور اليوم من ألاعيب ودسائس في الكواليس وبين الأروقة وداخل الغرف والمكاتب المغلقة، فلن تنطلي «حيل التمويه» وخطط الأقليات والفئات والجبهات والتجمّعات سواء أكانت هذه الحيل والخطط ذات مرجعية ايديولوجية او جهوية أو ضمن ما بات يعرف ب «المحاصصات الحزبية او السياسية». انتماء جهوي وتجاذب أممي إكتوت البلاد طويلا بنيران الانتماء الجهوي الضيّق، والبلاد لا يمكنها أبدا ان «تستنسخ» مثيلا لذلك التجاذب الأعمى الذي كثيرا ما نخر وخرّب جسد هياكل الدولة ومؤسساتها الأمنية والقضائية وحتى الاقتصادية والاجتماعية، كما اكتوت البلاد ولعقود طويلة بسياط الجلد الايديولوجي وحروب «فرّق تسد» و«فتنة هذا الطرف بذاك» اليمين باليسار والعكس بالعكس، ومنهجيات الاستئصال والعفن الدكتاتوري المتلبّس بشعارات المغالطة والمماطلة في تحقيق تطلعات الناس لمجتمع حر وتعددي حداثي وديمقراطي عادل لا إقصاء ولا تهميش بين مختلف مكوّناته اجتماعيا وسياسيا. الموجودون في السلطة والأحزاب والنخب، يلهثون اليوم لاقتسام حصاد ثورة المحرومين والجياع والمظلومين، وما لم تستقر أحوال البلاد والعباد قريبا فمعنى ذلك ان أهل السياسة لم ينهوا بعد مناوراتهم ولم يخمدوا بعد أسلحتهم ولم يتوصلوا الى وفاق يرضيهم جميعا ويدفع البلاد الى الأفق المرجو. مناورات وتطاحن وبعكس ما يعتقده أولئك «المناورون»، فإن خفاياهم ستنكشف تباعا، ان لم تكن خيوطها الكبرى قد توضّحت بعد بمنطق الصراعات الجهوية والتجاذبات الحزبية والتطاحن الايديولوجي و«نهم» اقتطاع جزء من «كعكة الثورة». ولأن هموم الناس لا تنتظر ولا تحتمل المزيد من الانفلاتات والمزيد من الآلام والأوجاع ولأن الوطن واستقلاله واستقراره مطمح مقدس لن يرحم «المتخاذلين» تجاهه حان الوقت لأهل السياسة ان يتخلوا عن «أسلحتهم» وأن يكفوا عن استفزاز الناس سواء بالتوجيه او التحريض او التلاعب بمشاعرهم او السعي الى الوصاية عليهم. قفوا امام أقرب مرآة تعترضكم، حكموا ضمائركم لتكن لديكم الشجاعة لنقد أنفسكم ومصارحة الناس وقول الحق واجتناب المغالطة. بربّكم «أريحوا شعبكم» حدثوه بصدق، فلولا هذا الشعب ما سجّل التاريخ لتونس هذه الثورة وهذا المكسب التاريخي البارز ان لم يكن مكسبا «أسطوريا» ستذكره الأجيال وستخلده كتب التاريخ والحضارة. أمانة ومسؤولية لولا هذا الشعب، ما كان لكم جميعا ان ترتقوا هذه المنزلة وأن تبلغوا هذه الدرجة، أنتم في موقع أمانة ومسؤولية ولا يمكنكم ان تتحوّلوا الى منزلة الوصاية. تخلّوا ولو لفترة قصيرة، عن حساباتكم الضيّقة والمحدودة، مدّوا أياديكم وافتحوا صدوركم الى بعضكم، وكفوا عن لغة الخشب في الاتهام والإدانة وتأجيج المشاعر والدفع ب «الغلابة» في أتون معارككم الفئوية والحزبية والسياسية الضيّقة التي بدت الان مكشوفة. أجلسوا الى بعضكم، وحكموا عقولكم، وغلّبوا مصلحة الوطن والناس، كونوا عند قدر الأمانة والمسؤولية، تجاوزوا خلافاتكم الضيّقة ومصالحكم الآنية وحققوا «الوفاق». ان الشعب الذي رفع شعار «لا خوف بعد اليوم» وحطّم به جدران القهر والظلم والتسلّط، لهو نفس الشعب الذي لن يرض بخوف جديد ولن يقبل بوصاية جديدة ولن يسمح بانغراس دكتاتورية جديدة في جسده وكيانه.