كنا في شبابنا المبكر نعجب باللقب الذي كان يعرف به محمد عبد الوهاب في أيام شبابه وهو (مطرب الملوك والأمراء)، لأننا كنا معجبين بأولئك الملوك والأمراء الذين كانت وسائل الإعلام تقدمهم للناس على أنهم يقومون بأعمال مشرِّفة لأقطارهم وللأقطار العربية والإسلامية، فإذا استمعنا إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب يتغنى بقصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي يختمها بذكر ملك العراق فيصل الأول، طربنا له وأعجبنا بهذه الأغنية التي عُرفت بمطلعها: (يا شراعا وراء دِجلة يجري)، التي نشرت في الجزء الرابع من الشوقيات ص 88 ومهد لها المشرف على طبعه بهذه الكلمة: «غناها بين يدي ملك العراق المغفور له فيصل الأول، الموسيقار محمد عبد الوهاب بمناسبة زيارته لتلك البلاد في سنة 1931» قبل وفاة شوقي بعام واحد، وهي تتكون من تسعة أبيات ونلاحظ أن عبد الوهاب غناها مصحوبة بعزفه على آلة العود لأنه لم يكن مصحوبا بفرقة موسيقية في رحلته إلى العراق، ونلاحظ أنه لم يغن منها البيتين الخامس والسادس، وهذه القصيدة ليست من أحسن شعره، والملاحظ أن الشاعر لم يشر فيها إلى الملك فيصل الأول إلا في البيتين الأخيرين حيث ذكر تاج ملك كريم عظيم فوق فَرْقه أو مفرقه يملك تلك الأنحاء، وهذا نصها: يا شراعا وراء دِجلة يجري في دموعي، تجنبتْك العوادي سِرْ على الماء كالمسيح رويدًا واجرِ في اليمِّ كالشعاع الهادي وأْتِ قاعًا كرفرف الخلد طيبًا أو كفردوسه، بَشاشةَ واد قفْ تمهَّلْ وخُذْ أمانًا لقلبي مِن عيونِ المها وراءَ السوادِ (والنواسيُّ والندامَى أ مِنْهمْ سامرٌ يملأ الدجَى، أو نادِ؟ خطرت فوقه المهارةُ تعدو في غبار الآباءِ والأجدادِ) أمة تنشئُ الحياة وتبني كبناء الأبوَّةِ الأمجادِ تحت تاج من القرابة والمُلْ كِ على فرقِ أريحِيٍّ جوادِ ملِكِ الشط والفراتين والبطْْ حاءِ، أعظِمْ بفيصلٍ والبِلادِ! وبالإضافة إلى هذه القصيدة غنى عبد الوهاب من شعر مهيار الديلمي قصيدة تتكون من تسعة أبيات يفتخر فيها بنفسه، ولم يغنِّ البيت السابع منها، ومناسبة التغني بها هو زواج شاه إيران بالأميرة فوزية بنت فؤاد ملك مصر وشقيقة الملك فاروق، وأعتقد أن عبد الوهاب قد غناها في تلك المناسبة، فكأنهم تصوروا أن هذه الأميرة الجميلة أعجبت به في بلادها مصر فقال فيها هذه القصيدة: أعْجِبَتْ بي بين نادي قومها «أمُّ سعدٍ» فمضتْ تسأل بي سَرَّها ما علمتْ من خُلُقي فأرادت علمها ما حسبي لا تخالي نسبا يخفضني انا مَن يُرضيكِ عند النسبِ قوْمِيَ استولَوْا على الدهر فتى ومشوْا فوق رؤوس الحِقبِ عمَّموا بالشمس هاماتهِمُ وبَنَوْا أبياتَهمْ بالشهُبِ وأبي كسرى على إيوانِه أين في الناس أبٌ مثلُ أبي؟ (سَوْرةُ المُلك القدامَى وعلى شرف الإسلام لي والأدبِ) قد قبسْتُ المجدَ من خيرِ أبٍ وقبست الدين من خيرِ نبِي وضممتُ الفخر من أطرافه سؤددَ الفُرسِ ودينَ العربِ من ديوان مهيار الديلمي ج مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة 1344ه 1925م ج1 ص 64. ونلاحظ أن الأغنية قد عوَّضت فيها «أم سعد» ب«ذات حسن» لأسباب منها أنه لا يجوز أن تكون الأميرة المصرية المعجبة بالشاه أرملة لها ابن اسمه سعد تكنى به، بالإضافة إلى أن لعبد الوهاب شقيقا هو والد المطرب سعد عبد الوهاب، وأذكر أن عبد الوهاب قال في برنامج (النهر الخالد) الذي يروي فيه قصة حياته: «لو غنيتها كما قالها الشاعر لكنت كأني أتغزل بأم سعد عبد الوهاب. كما غنى قبل قيام الثورة بعض الأغاني الملتزمة مثل «دعاء الشرق» من شعر محمود حسن إسماعيل، ونشيد: كنتَ في قيدك مكرهْ كنت في صمتك مرغمْ فتكلم وتألم وتعلم كيف تكره... من كلمات كامل الشناوي، إلى جانب أغنيات ثورية أخرى باللهجة المصرية منها: الصبر والإيمان دول جنة المظلوم ، وقد كانت هذه الأغاني وأمثالها ممنوعة في إذاعتي مصر وتونس أيام استعمارهما، لذلك لم يُعامل عبد الوهاب، إثر الثورة، معاملة أم كلثوم قبل أن يأمر عبد الناصر ببث أغانيها باعتبارها فوق أن تؤاخذ بالغناء لفاروق أو بقية الأمراء، فهي هرم لا يهرم. لقد غنى عبد الوهاب ولحن لغيره في أيام الثورة كثيرا من الأغاني التي تشيد بعبد الناصر وأيام حكمه، وكان دائما يتغنى بأمجاد مصر في جميع عهودها وفي ظل حكامها.ولم أر أحدا آخذه على التغني بعهد سابق مهما كان نصيب قادته من النجاح أو الإخفاق، وهذا هو الموقف السليم الذي يجب احتذاؤه في كل مصر وعصر إزاء المبدعين.لأنهم مؤدون وليسوا مسؤولين على تقرير مصير الدولة.