ملامح كثيرة تجري هذه الأيّام تُعيد إلى الذاكرة حمّام العنف والصدامات التي جرت بداية تسعينيات القرن الماضي في علاقة بالحملة الأمنيّة والاستئصاليّة الّتي قادها النظام السابق ضدّ الإسلاميين وجزء من الحركة الديمقراطية الذين تعاطفوا معهم. أحداث على الميدان وبلاغات – ومنها بلاغات وزارة الداخليّة- تدفع إلى الإحساس بأنّ هناك مخطّطا للإطاحة بالثورة في مهبّ وأتون الفتنة والنزاع والتصادم بين الدولة والشعب ، وكأنّ من فكّروا في خطط المواجهة بداية التسعينات هم أنفسهم من يتحرّكون لوضع أجندات اليوم مع فارق وحيد متمثّل في حالة الضعف الّتي تُعانيها العديد من أجهزة الدولة ومؤسّساتها ، وهي الحالة الّتي قد تكون شجّعت منظري تلك الخطط والتكتيكات إلى التقدّم خطوات في وضع اللبنات الأولى لمشروع صدامي جديد. الدولة ستبقى قائمة، وليس في غيابها مصلحة لأيّ طرف، والدولة نفسها اليوم هي المدعوة لكي تُعالج الأوضاع بالشكل الملائم والجذري والسريع لكي يتوقّف النزيف ولا تنهار الأوضاع أكثر ممّا هي مُنهارة إليه الآن. الدولة عليها أن تكون حكما، ولا طرفا، في التجاذب الثنائي اللائكي (العلماني الإسلامي) العروبي الجاري حاليّا داخل المجتمع وخاصة بين أحزابه ونخبه، على الدولة أن تلتزم الحياد وأن لا تتسرّع في توصيف الأوضاع خارج الأبحاث العدليّة والإثباتات القضائيّة وإلاّ انفتح الباب لاستعادة سيناريوهات الماضي بما فيها من مواجهات وعنف وتغييب للحريات واستشراء لمظاهر العفن السياسي والاجتماعي والاقتصادي. اتهامات وهويات مجهولة تؤكّد معطيات الواقع وتوصيفاته الدقيقة أنّ من يتحرّك للحرق والنهب والعنف والإضرار بالممتلكات العامّة والخاصّة والصدام مع قوات الأمن بتلك الصورة المستفزّة والفظة أشبه ما يكون ب«الشبّيحة» مجهولي الهويّة (في انتظار أن تكشف العدالة أمرهم)، شعارهم الأرض المحروقة وتوتير الأوضاع إلى أقصاها، وآلية اشتغالهم الاندساس في التظاهرات السلميّة والحثّ على الفتنة وضرب السلم الاجتماعيّة. ومن المؤكّد أنّ الحكومة مسؤولة إلى درجة كبيرة عن تداعيات إحجامها عن كشف هويات ومرجعيات وأجندات الّذين تورّطوا في أحداث عنف جدّت على مدار الأشهر الفارطة في العاصمة وفي عدّة أنحاء من البلاد –كانوا من كانوا-، فما أشبه ما وقع في منزل بورقيبة نهاية الأسبوع المنقضي بما جدّ منذ فترة في سليانة والروحية والمتلوي وقفصة وجندوبة وسيدي بوزيد والكاف وغيرها من المناطق. ومع تلكّؤ الحكومة في فضّ العديد من الملفات، ليس فقط تلك المرتبطة بالثورة بل حتّى ما وقع منها غداة يوم 14 جانفي، فإنّ ما زاد الوضع قتامة وتعقيدا ما ظهر منذ فترة من سعي محموم وغير محمود من جانبي الصراع السياسي والإيديولوجي إلى توظيف الأحداث والمستجدّات – والتي كان جلّها ناتجا عن حالة من الإحباط في ظلّ التباطؤ الحكومي في تجسيد تطلعات الناس في الأمن والشغل والحياة الكريمة وكشف الحقائق- بحسب أهواء كلّ طرف وبما يتوافق مع الأجندات الحزبيّة والفئويّة الضيّقة إن يسارا أو يمينا. ولا أدري شخصيّا إلى متى سيظلّ خطاب الحكومة خجُولا مُتخوّفا من كشف الأسماء بمسمياتها، إذ يبقى الكلام عامّا غير دقيق لأنّه لا يحدّد مكامن الداء الحقيقيّة وهي الأطراف التي تقف خلف الفوضى والعنف والحرق وخرق الإجماع الوطني: من هم ؟ ..ومن يكونون؟ ، حتّى الوزير الأوّل في خطابه أمس لم يتكلّم بالوضوح والدقّة المطلوبتين فجاءت اتهامات يمنة ويسرة دون قول حاسم وفاصل يُزيح كلّ التباس ويُنهي كلّ طلاسم. محطّة مفصليّة وتجربة سابقة إنّها محطّة مفصليّة في مسار الثورة وفي تاريخ البلاد، محطّة تقتضي أكثر ما تقتضي إجراء حوار جدّي بين جانبي الصراع لإعادة تشكيل وعي كليهما بالآخر ، استبدال مقولة «العداء أو الاستعداء» بمقولة «الشراكة» والإقرار بالمزيد من الضمانات في اتجاه تثبيت خيار الدولة المدنيّة والديمقراطيّة ومن أخطر السيناريوهات أن يتواصل منطق العداء بين الطرفين وسط غياب حسم واضح من الحكومة لأنّ في ذلك المزيد من الضبابيّة والمزيد من المخاطر. مع ما يجب أن يصل أسماع جهاز الأمن من طمأنة وحرص جماعي على تفادي فض نزاعات وأخطاء الماضي بأساليب الانتقام والتشفّي وفي ظلّ أريحيّة وليدة تنظر إلى الحاضر والمستقبل أكثر من تركيزها على جزئيات الماضي، وهذا ما يُوجد شبه إجماع بخصوصه في إطار ما بات يُعرفُ ب«العدالة الانتقاليّة» التي تضمنُ في آن كشف الحقائق وتعزيز فرص إنجاح المسار الثوري وثقة كلّ الأطراف بالقدرة على التعايش المدني والديمقراطي وبقاء الجهاز الأمني جهازا مُحايدا يحمي الوطن ويؤمّن حقوق الجميع دون استثناء في حريّة التعبير والاجتماع والتظاهر دون انحياز إلى دفّة من دفتّي التجاذب الإيديولوجي والسياسي الدارج والجاري اليوم. إنّ التمعّن في التجربة السابقة التي أوجدت قطيعة داخل المجتمع وحربا بين البعض من أجهزة الدولة وفلول من الحركة التي تدّعي التقدميّة الحداثيّة من جهة وحركة النهضة من جهة أخرى ومهّدت الطريق لاستنبات دكتاتوريّة اكتوى بنارها الجميع بمن فيهم أولئك الّذين سارعوا إلى مُباركة الهجمة على من اصطلح بنعتهم حينها بأنّهم ظلاميّون ، إنّ التمعّن في تلك التجربة بشكل واع ومسؤول ينتهي إلى إقرار مُصالحة حقيقيّة بين كلّ التونسيّين وإلى فتح صفحة جديدة خالية من المخاوف والمحاذير ومليئة بالتفاؤل والأمل.