صحيح أن رمضان هو شهر الرحمة والتعاون، لكن يبدو أن هناك من يحترف استغلال روح التكافل و»الإنسانية»، ليغالط الناس بحاجته المزيفة، ممتهنا التسوّل، ظاهرة «تنتعش» في الشهر الكريم وقد تقف وراءها بعض العصابات. تونس الشروق: أينما توجهت في رمضان في الحافلة في المترو في القطار في الطريق سيصادفك أحد المتسوّلين طالبا مساعدة، منهم المعوق ومنهم الأطفال و النساء وحتى الرضع ومنهم من يحمل الكاكي والأوراق، ويزيد إلحاح البعض منهم في طلب المساعدة، ليكتشف المواطن تحيل بعضهم. تحيل وإيقافات وما زالت حكاية المتسوّلة التي توفيت في جبنيانة واكتشف أهاليها ثروتها الطائلة عالقة في ذهن التونسيين.. ولم تختلف عنها روايات أخرى لشاب ذهب لكراء شقة في أريانة فاكتشف أن صاحبة المحل ما هي إلا المسنة التي تعود أن يرأف بحالها في شوارع العاصمة وهي تطلب المساعدة. وتتعدد القضايا في المحاكم التونسية لمتسوّلين تم ضبطهم وثبت أن لبعضهم عملا وموارد رزق، ومن بين القضايا قضية بالمحكمة الابتدائية بتونس حيث ضبط أعوان الأمن رجلا يتسوّل تبين في ما بعد أن له عملا قارا واعترف أنه يكسب مبالغ مالية تترواح بين 30 و 60 دينارا من هذا «العمل الإضافي». وتشير مصادر أمنية إلى انه تم خلال الفترة المنقضية إلقاء القبض على عدد من الأشخاص المتهمين باستغلال الأطفال في شبكات للتسوّل حيث يتم نقلهم في شاحنات من مناطق بعيدة، ومنهم أطفال. وتم ضبط شخص في حمام الأنف أصيل القصرين يقوم بتشغيل 12 طفلا من أقاربه مقابل 10 دنانير يوميا للشخص الواحد. ويبدو ان الحملات الأمنية قد تكثفت خلال هذه الأيام مع استفحال ظاهرة التسوّل في رمضان حيث قامت منطقة الأمن الوطني بسوسة المدينة وبحضور المندوب الجهوي لحماية الطفولة بسوسة بضبط ستة أطفال يقطنون المدينة يقومون بالتسوّل، كما تمّ ضبط امرأة أصيلة الجهة مفتش عنها لفائدة محكمة الناحية بمساكن من أجل التسوّل، مستغلة ابنها الرّضيع. في ارتفاع حسب دراسة لوزارة الشؤون الاجتماعية ارتفع عدد المتسوّلين ليصل إلى أكثر من 40 الفا من النساء والاطفال و المعوقين. كما أن نسبة التحيل بين المتسوّلين عالية، حيث اتضح أن 81 في المئة من عيّنة الدراسة تتمتع بتغطية اجتماعية، و41 في المئة منها تستفيد من مساعدات من الدولة. ويعود استفحال الظاهرة إلى اسباب عديدة منها ضعف ثقافة العمل، فالتسوّل عند الكثيرين هو أسهل أنواع الكسب المادي وأيسرها، وبقدر ما يعكس احتياجا فانه بالمقابل يعكس إعراضا عن ثقافة العمل وهو ما ذكره الباحث في علم الاجتماع طارق بالحاج محمد ملاحظا اختلاف أنواع المتسوّلين من نساء ورجال وأطفال وشباب وأغلبهم في صحة جيدة. واعتبر أن التسوّل هو نوع من التحيل والجريمة المنظمة، ويعكس أزمة أخلاقية وقيمية بالأساس. فلو طبقنا معيار الأخلاق والقانون على معاملاتنا اليومية لوجدنا أن أغلبها باطلة سواء في الشكل أو المضمون، دون أن يثير هذا الواقع فينا إحساس الفزع أو الخوف أو الإدانة في نوع من التطبيع الراسخ في الوجدان والمخيال الجماعي للتونسي. وقال إنه لو عدنا على سبيل المثال إلى المأثور الشعبي والمنطوق التونسي الدارج لأدركنا لأي مدى نبرر هذه الممارسات إلى حد اعتبارها في بعض الأحيان قيما إيجابية في الحياة ونوعا من «الشطارة» وتعبيرا عن القدرة على فهم الحياة والتأقلم معها. فالشاطر حسب التونسيين هو ذاك الذي «لا يحفر لا يبات البرا» وهو الذي « يبيع القرد ويضحك على شاريه» وهو من يجيد لعب «الحمرا كحلة». ليس هذا فقط، فتثمين ظاهرة التحيل والتطبيع معها والتبرير لها عادة ما يقترن بالتنكيل والتقليل من قيمة الشخص الشريف والملتزم حيث تطلق عليه شتى أنواع نعوت التحقير مثل «بوهالي»، «ما يعرفش يعيش»، «قديم ياسر» ليمحى الفرق بين القيم النبيلة والقيم الخسيسة وبين الجريمة والفضيلة حيث يصبح الشر والوضاعة أمورا تافهة ومبتذلة نتعايش معها ونمارسها ونبررها. وهؤلاء المتحيلون الجدد ليسوا سوى أحفاد أشعب وأبو دلامة والقائمة تطول. جريمة منظمة «إن المتسوّلين ليسوا دائما أفرادا منعزلين بل هم في بعض الأحيان يعملون في إطار شبكة تقسم فيها المهام والمناطق بكل دقة. وهم اليوم يتمتعون بخيال وذكاء يمكناهما في كل مرة من ابتكار أساليب وحيل وطرق جديدة يعجز أكثر الناس حذرا وذكاء عن كشفها. وهناك طرق مستحدثة قوامها سيناريوهات محبوكة الإخراج وأبطالها أناس لا نتوقعهم نظرا لسنهم أو جنسهم أو مظهرهم أو المكانة الاجتماعية التي يحتلونها خصوصا إذا كانوا يعملون في إطار شبكة معقدة من التحيل والجريمة المنظمة» هذا ما بينه طارق بالحاج محمد، داعيا إلى إعادة الاعتبار لقيمة الكرامة والعمل والمواطنة والمصلحة العامة كقيم أخلاقية واقتصادية وكسلوك حضاري ومواطني لا يجب أن يكون مطلبا حكوميا، بل ثقافة مشتركة بين التونسيين. فالعودة إلى العمل مفتاح النجاح والخلاص من الأزمة القائمة. ويؤكد المختصون أن الظاهرة تفاقمت بعد الثورة، فيما تحاول بعض الوزارات وضع برامج ردعية وأخرى اجتماعية لتطويق الظاهرة التي تمس من صورة البلاد. - يمنع الفصل 171 من القانون الجنائي التونسي التسوّل، وينصّ على عقوبات تصل إلى ستة أشهر لكل من يتحايل على الناس ويكذب عليهم كي يحصل على الصدقة، وترتفع العقوبة إلى عام كامل إذا كان المتسوّل يستغل طفلًا للتأثير على المارة. - أكثر من 40 ألف متسوّل في تونس حسب تصريح لوزير الشؤون الاجتماعية