لنعد إلى الأصل: إلى آدم. يقول القرآن الكريم إن اللّه خلق آدم بيديه من كتلة طينية وسوّاها في أحسن صورة(1). خلقه «من صلْصَال من حمإ مسنون(2). يقول المفسّرون إن اسم آدم من التّراب الذي هو على سطح الأرض أو «أدمة الأرض». لكن هذا الجسم الطّيني كُرّم وأُعْطِيَ جوهرا ما ورائيا بعد أن نفخ اللّه فيه من روحه. من هنا جاء التناقض الذي يميّز التركيبة الجوهريّة لآدم ومنها لبني آدم: الإنسان. فهو يحمل داخله حقائق متعارضة: المحسوس وغير المحسوس، الفظّ واللّين، العلوي والسّفلي. عنصر «الأرض» يبيّن تفاهته وعنصر «الرّوح» يؤكّد رفعته. وعند الموت تعود المادّة إلى الأرض، وتسمو الروح إلى بارئها(3). وقد اهتمّ مفكّرو الاسلام وفلاسفته بهذا التناقض وألّفوا فيه كتبا كثيرة ومنهم الكندي(4). وكذلك المتصوّفون الذين اعتبروا الانسان «نسخة الكون» تجتمع في صلبه العناصر الأربعة: النور، والنار، والماء، والهواء. وبهذه المكوّنات الهامة والمتناقضة يمكن للإنسان حسب علماء التصوّف أن يصل، إذا ما اجتهد في ذلك، إلى معرفة ذاته، ومن ثمّة، إلى معرفة اللّه مثلما يؤكده الحديث النبوي: «من عرف، نفسه فقد عرف ربّه». فالإنسان عالم كبير فيه سُجّل كل شيء، كما يقول المتصوّف الفيلسوف جلال الدين الرومي، لكن «الأستار والظّلمات هي ما تمنع الانسان من إدراك ذلك العلم في نفسه». جعل الله آدم، وبالتبعيّة، الإنسان خليفته في الأرض وعلّمه الأسماء كلّها وهو ما تعبّر عنه الأحاديث «بالأمانة» التي خافت من تحمّلها كل المخلوقات و«أشفقن منها» (سورة البقرة آية 72)، لكن الإنسان تقدّم وقبل هذه الأمانة، أي أنه تحمّل مسؤولية أن يضع الله ثقته فيه. لذلك سجدت له الملائكة بأمر من اللّه، ومن ثمّة، كلّ الخلق من حيوان ونبات وجماد، وكلّها سخّرها اللّه للإنسان مقابل أن يظهر دائما أنه في مستوى هذه المسؤولية العظيمة ويحافظ على توازنات هذا الكون الظاهر. سجدت المخلوقات كلّها لآدم «إلا ابليس أبى واسْتَكْبرَ وكان من الكافرين (سورة البقرة آية 34). اغترّ ابليس الشيطان بطبيعة تكوينه النّاري فاحتقر طبيعة آدم الطينية: «قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين» (سورة الأعراف آية 12). لكن هذا الزّهو بنفسه كلّف إبليس مكانه في الملإ الأعلى. في سقوطه جرّ إبليس آدم وحوّاء لأنهما أبديا سذاجة وأكلا من الشجرة المحرّمة. غفر الله لآدم وحواء هذه الخطيئة، واكتشفا بفضل الأسماء التي علّمهما الله قدرات كبيرة وامكانيات لا محدودة. يرى العلماء الروحانيون المسلمون أن سقوط الإنسان من الجنّة كان شرّا لازما ويسمّونه المحنة المنقذة. أما الشيخ بن تونس فيرى أن محنة آدم وحوّاء تتكرّر كل يوم. لذلك على الإنسان أن يعمل بلا انقطاع على تخليص نفسه من قبضة الشيطان الذي يريد أن يغويه بفعل الشرّ ويجرّه إلى غرائزه الحيوانية مصدر كل الرذائل والفظاعات. فالشيطان يقول الشيخ بن تونس «هو جزء لا يتجزّأ من المشروع الربّاني لأنه إذا لم يوجَدُ الخطأ والضلال ما وُجد الصراط المستقيم ولا الهداية». من أجل ذلك وجب على الإنسان المسلم الاّ يتوقّف عن ذكر اللّه لأن ذلك الذّكر يضعه تحت الحماية الإلهية ويمنعه من الانزلاق إلى الشّر: «يا أيّهَا الذين آمَنُوا اذْكُرُوا اللّه ذِكْرًا كَثيرًا» (سورة الأحزاب آية 41) ومهما بلغ دور الشيطان فإنه محكوم بالفشل لأن الشر ليس مطلقا على خلاف رحمة الله التي هي مطلقة. 1) سورة الحجر اية 29 2) سورة الحجر 28 3) انظر دراسة أحمد بويدران «الإنسانية والإنسة في الإسلام» 4) أبو يوسف يعقوب بن اسحاق الكندي (805 873م) علامة وفيلسوف ولد في الكوفة وتوفي في بغداد 5) الشيخ خالد بن تونس فيلسوف وكاتب رئيس الطريقة العلوية