يؤكد الدكتور المهدي المنجرة -أحد كبار المهتمين بالدراسات المستقبلية في العالم الإسلامي- أن سر الابتكارات التكنولوجية الغربية التي تحقق زيادة ضخمة في الكفاءة الإنتاجية، يكمن في مدى النجاح الذي تحققه كل أمة في إقامة التربية والتعليم الملائمين للتغيير المجتمعي الذي تريده. مثل هذا التأكيد يثبت عمق العلاقة بين نظرية التربية وخلفيتها العقدية وما تؤدي إليه من تصور للإنسان، ضمن جدلية الخير والشر وتبعاتها على أرض الواقع وآفاق المستقبل. لكننا إذا أردنا أن نفحص مسألة الشر وقضية الشيطان بصورة أكثر تدقيقًا، فإننا نجد أنها تتجاوز المجال العقدي- التربوي وما اعتراه في عالم المسلمين من ارتباك. المسألة في جانبها الثاني تعود إلى النظرية المعتمدة في التفسير، ذلك أن ما أعان على تفكك نظريتنا التربوية وقوّى فيها عنصر الترهيب، ذلك المنهج السائد في تعاملنا مع النص القرآني. كيف يمكن اعتبار مسألة الشيطان مثالاً كاشفًا يمكن من خلاله الوقوف على جانب ثان من جوانب تعثر تصورنا العقدي ومنظومتنا الفكرية، وأثر ذلك في قصور فاعليتنا الحضارية؟ إذا بدأنا من جانب الخطاب القرآني فإننا نلاحظ أن الشيطان قد ذكر في سبعين آية بصيغة المفرد، بنسبة ورود متقاربة جدا بين عدد الآيات المكية منها والمدنية. لم يتجاوز عدد الآيات التي تستعمل صيغة الجمع (شياطين) أكثر من ثماني عشرة آية، ثلاث منها مدنية فقط. أما وروده في كامل القرآن بتسمية إبليس فإنه انحصر في إحدى عشرة آية، اثنتان منها لم ترتبط برفض السجود لآدم. إلى جانب هذا الحضور المحدود كميا، فإن دلالات الورود كلها تربطه بالفعل الإنساني وقدَره الاستخلافي. الشيطان مخلوق منعدم التأثير على العالم ومسيرة الكون، والشر -من ناحية ثانية- لا يصدر عنه بقدر ما يصدر عن النفس الإنسانية الحرة والمسؤولة. بتعبير آخر يمكن القول إن إبليس في الخطاب القرآني له مكانة هامشية جدا مقارنة بالموقع المحوري للآدمي في المسيرة الكونية التي أرادها الله تعالى. هذا الفهم يعطي الخطاب القرآني طابعا مميزا لا يمكن أن يخفى على كل من يستمد وعيه من كامل النص القرآني ومقارنته ببعض الديانات الأخرى التي اعتنت بالشيطان. ليس في القرآن الكريم أكثر من أن إبليس هو قائد حملة تضليل للآدمي يستعين فيها مع أعوان من قوى الشر. من هذه الناحية فهو مختلف اختلافًا كاملاً عمن ينطلق من وجود أصلين أزليين: النور والظلمة أو الروح والمادة، يكونان دائما في حالة تصارع متواصل. يختلف منطلق إبليس وأثره في الخطاب القرآني عن ذلك المعتقد، لكونه لم يكن خصما لله تعالى ولا هو قائد لهذا العالم ولا هو إله لهذه الدنيا. إنه مخلوق مقرّ بسلطان الله، أبى أن يسجد لآدم واستكبر عن الانصياع لأمر الله، فهو ليس «أهريمان» خالق الشرور، ولا هو يمثل مركز صراع دائم مع «أهورمزدا» إله الخير. أصالة الخطاب القرآني إذن في مسألة الشيطان تتحدد أولاً في ضوء عقيدة التوحيد التي تنطلق من الأصل الواحد للوجود، وأنه تعالى في مفارقته للعالم يظل حفيا به فاعلاً فيه. بذلك تحققت إرادة استخلاف الآدمي التي تقتضي حريته سُنةً لخلقه ضمن صيرورة الزمن. في هذه الدائرة التي تكرس اختيار الإنسان وقدرته على الاهتداء بين سبل الخير والشر يتأكد أن طرد إبليس عن مقام القرب لم يكن اعتباطًا أو عفوا، بل جاء نتيجة اختياره للشر مسلكًا ثابتًا لا يتحول عنه، بينما تكون دائرة استخلاف الآدمي لا تعني خيارا نهائيا لا رجعة فيه، بل انفتاحا على احتمالات مختلفة. وهذا ما يؤكده الخطاب القرآني المتعلق بالشيطان من إثبات لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم في الأرض، ومبدأ تحقق خيار الآدمي المستخلف. هذا ما يمكن أن تفضي إليه قراءة واعية بخصوصية كامل الخطاب القرآني في مسألة الشيطان. ما يعنينا في هذا المستوى أن ضعف الوعي النصوصي وما صاحبه من عدم الاتفاق على نظرية في التعامل مع الخطاب القرآني وعلى أصالة هذا الخطاب، أفضت ببعض المفسرين إلى أسئلة مثيرة نأت بالفكر الإسلامي عن المعاني والدلالات التي أسبغها القرآن على الإنسان والشيطان. من هذا القبيل اخترنا مسألة معبرة حصل فيها اختلاف، عالجت كيد الشيطان، وهل هو أضعف من كيد المرأة؟ اختلف أهل العلم في هذا الموضوع على قولين: - رأى البعض أن كيد المرأة أعظم من كيد الشيطان لظاهر نص الآية: «إنَّ كيدكنَّ عظيم»، بينما قال في الشيطان: «إنَّ كيد الشيطان كان ضعيفًا»، مما يدل على أن كيدهن أعظم من كيده. - يذهب آخرون إلى أن المسألة تحتاج إلى توضيح لبيان ما بين الآيتين من فروق لا تتيح المقابلة اللغوية بين العِظَم والضعف، ولأن كيد الشيطان اعتُبر ضعيفًا لإمكان دحره والتخلص منه، بالاستعاذة، أو الأذان، أو ذكر الله عموما، أما كيد المرأة فهو عظيم لأنه من الصعب طردها والتخلص منها! إضافة إلى هذا فسياق الآية المتعلقة بكيد الشيطان يختلف عن سياق الآية المتصلة بكيد النساء في سورة يوسف. خلاصة الاختلاف الذي انتهى إليه عدد من المفسرين هو أن كيد المرأة ليس أقوى من كيد الشيطان، لأنه جزء منه، ولأنه يظل معتمدا طريق الوسوسة المختلف عن طريق المواجهة التي تعتمدها المرأة. ما الذي يعنينا في هذا الضرب من الخلاف، وفي خصوص المعالجة التي اعتمدها كل من الجانبين؟ للإجابة، لا مفر من العودة إلى ما أسميناه غياب الوعي النصوصي واستعاضته بما يسميه بعض المفكرين المسلمين المعاصرين بالقراءة الحروفية التي تعجز عن الوعي التركيبي، منزلقة في معالجتها للنصوص في رؤية تجزيئية تُشظّي الخطاب القرآني. هي قراءات تجعل الخائض في الموضوع يعشى عن كل ما ذكره القرآن الكريم من آيات تكريم الإنسان واستخلافه، وعن الآيات التي ذكرت المؤمنات الصالحات القانتات الحافظات للغيب، وعما وعد به سبحانه من عدل ونعيم لمن عمل صالحا من ذكر وأنثى. العرب 2010-01-14