نعود للحديث عن مسألة التوحيد التي هي، دون شك، المسألة المركزيّة في الإسلام. فالتوحيد الذي هو الإعتراف بوحدانية اللّه لا يتحقق إلا حين يقترن بالتجريد. أي أن يتجرّد الإنسان من كل ما تراكم في نفسه من معتقدات وتصورات وسبّب لها تلوّثا يجعلها غير قادرة على تحقيق هذا التوحيد. والتوحيد أكثر من عقيدة في الإسلام بل هو حقيقة مسلّمة. هو أمر بديهي. هو من الفطرة. والفطرة لفظ قرآني يحتاج دون شك إلى توقّف. يقول الله تعالى في الكتاب: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ فالفطرة تعني «الخلقة» أو «الصّبغة» التي خلق الله عليها الإنسان. و«الفطرة» هي ذلك الصفاء الطبيعي الأول الذي طبع الله باعتباره الصفاء المطلق به عباده عند خلقهم. أي ان الأصل في الانسان هو الايمان باللّه. الإيمان رُكّبَ فيه كما تُركب سائر أعضائه. لكن الإنسان يخرج عن مقتضى فطرته بحكم التأثيرات الخارجية وما يتلقّاه منذ نشأته في البيئة العائلية، وفي المدرسة، وفي الشارع.. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلعم): «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ ، أو يُنَصِّرَانِهِ ، أو يُمَجِّسَانِهِ ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ». فالطّفل يولد بطبيعة صافية وقد مثّله الرسول (صلعم) بحالة البهيمة في كمال خلقها وخلوّها من العيوب والنواقص حتى إذا كُبرتْ شوّهوها وقطعوا آذانها وأنوفها وغيّروا خلقها. وما دام الإسلام هو «دين الفطرة» فإن المسلم يحمل داخله منذ مجيئه إلى الدنيا حبّةَ الإيمان باللّه الواحد الأحد. ولكن يبقى السؤال دائما مطروحا: كيف يحقق المسلم هذا التوحيد، توحيد الله داخله؟. الكثير منّا يقف عند الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي الشهادة العموديّة التي تضع الإنسان في علاقة مباشرة مع ربّه. وشهادة أنّ محمد رسول الله وهي شهادة عمودية تكرّس دين الإسلام الذي تنزّل على النبي محمد (صلعم) والذي ارتضاه الله طريقا لمعرفته وتحقيق الوصول إليه. فبهذا الدّين الحنيف وبمعرفته وبإدراك معانيه وبالعمل بموجباته وبترك محرّماته نصل إلى تحقيق معرفة اللّه ووحدانيته. فاستحضار التجربة المحمدية أساسية لكل مسلم كي يتعهد فطرته حتى تفتح ويذكر نعمة اللّه التي قد يتغافل عنها الإنسان أو ينساها. ولا ينبغي لأحد منّا أن يظنّ أنه قادر على تحقيق وعيه بالتوحيد والوصول إلى الذّات الإلهية دون مشقّة أو جهد. إنه جهاد لا يقدر عليه إلا القليل. يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (إن العجز عن الإدراك إدراك). أما نبينا الأكرم فله هذا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه والذي يؤكد به أن تحقيق التوحيد تجربة صعبة تتجمّع فيها الأضداد فيصبح اللّه سبحانه المستعاذ به منه لأنه لا ربّ غيره ولا مدبّر للعبد سواه فالمهرب منه إليه، والفرار منه إليه وفي هذا معنى كمال التوحيد. يقول الحديث: عَنْ عَائِشَةَ , قَالَتْ: «فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَداي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ , وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ , وَهُوَ يَقُولُ : « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ , وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ , وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ , لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ , أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ».