تونس الشروق: تتتالى الأحداث والمستجدّات في بلادنا منذ الثورة، ورغم تغيّر الكثير من المعطيات وتقلّب موازين القوى أكثر من مرّة إلاّ أنّ شيئا غريبا بقي ملتصقا بتفكير جزء من التونسيّين. وهو العداء لحركة النهضة وتلبيسها كلّ المساوئ والسلبيات والصور الرديئة. ولا تزال أحزاب وسياسيّون يعتقدون في إمكان إقصائها من المشهد، لا يهمّ في ذلك الوسيلة، وإعادتها كما قبل الثورة مطاردة إمّا في المنافي أو مخافر التعذيب والسجون. «كل شيء» و«لا شيء» لذا، كثيرة هي الإسطوانات التي نسمعها والتي يُلاحق أصحابها الحراك النهضاوي في مساع الى تشويهه أو تحقيره أو ذمّه والقَدْح فيه: من «علكة» دعم الجماعات الارهابيّة والوقوف وراء الاغتيالات السياسيّة وتسفير الشباب الى بؤر التوتّر، مرورا بتوظيف الدين في السياسة وإحداث الفتنة داخل الأحزاب المنافسة، وأساسا منها نداء تونس، والتلاعب بأمن البلاد في ارتباطات خارجية مشبوهة هدفها الحاق الأذى بالشعب التونسي وإخضاعه إلى أجندات الغير إقليميا ودوليا. فالنهضة لا برنامج لها إلاّ إغراق البلاد وتفتيتها ورهنها الى الخارج وهي تعمل دون هوادة للتغلغل في دواليب الدولة لافتكاكها. وهي حريصة على السيطرة أساسا على وزارتي الداخلية والدفاع للقضاء على الدولة المدنية وإقامة دولة الخلافة الراشدة الى الدرجة التي استعار فيها البعض مسائل بيولوجيّة مرّة واحدة تفرّق النهضاويين عن غيرهم (دماء سوداء نهضاوية ودماء صافية نقيَّة لدى خصومها) وانّ «النهضة سرطان يجب إبعاده عن تونس». وغير بعيد، وحتى لا نجترّ اتهامات سابقة لاحقت حركة النهضة، فهذه الأيّام هي المتحكّمة في الائتلاف الحاكم وهي التي تسند وحدها حكومة الشاهد. وهي التي أجبرت مصالح وزارة الداخلية لملاحقة المفطرين في شهر رمضان وغلق المقاهي والمطاعم، ومن المفارقة أنّها هي نفسها التي ضغطت في نفس الوقت لإقالة الوزير لطفي براهم، وهي التي فرضت تعيين غازي الجريبي خلفا له. تونسة وامتصاص للضربات على الأرض حركة النهضة تتقدّم وأكثر من أنّها حازت مناصرة جزء مهم من الشعب والرأي العام بفعل مسار تفاعلي واسع حمل يافطة «التونسة» و»فصل الدعوي عن السياسي»، مثلما يعكسهُ ذلك حصادها الانتخابي، فإنّها طبّعت وضعها مع الدولة وباتت لاعبا رئيسيا في صناعة التوجهات والقرارات الوطنية الكبرى بما جلب لها احترام الأطراف الدولية الشريكة والصديقة، ناهيك عن أنّ كلّ المؤشرات تقرّ بأسبقيّة معتبرة لها في موازين السلطة والحكم الى الدرجة التي باتت فيها المحدّد الرئيسي في المنعرجات الصعبة مثلما يُثبت ذلك مسار قرطاج2. واجهت حركة النهضة، دونما شكّ، أعاصير عاتية طيلة السنوات الفارطة، ولكنّها صمدت وتفادت المآلات السيِّئة وحافظت على قدر كبير من الحكمة والاتزان في مغالبة اجندات تجريمها ومحاولة إبعادها عن المشهد السياسي وإعادتها إلى مربّع المناكف للدولة المعادي لها، وهدّأت روع أنصارها وخرجت بهم تدريجيا من دائرة الضحية والمظلومية الى فضاءات المشاركة في الشأن العام وإدارة شؤون الدولة ومضت قدما في تقديم صورة النهضة الجديدة. هناك تَغيُّرات جوهريّة بارزة في العقل النهضاوي نقلها اليوم من دائرة المدافع عن وجودها الى المدافع عن الدولة وأجهزتها المختلفة، الباحث عن تدعيم سياسة التوافق وتعزيز الاستقرار السياسي الرافض لمغامرات استدامة أزمات البلاد والمتطلع الى بداية استنهاض الواقعين الاقتصادي والاجتماعي في البلاد لمراكمة مكاسب ونجاحات يلمسها المواطنون في معيشهم اليومي. وفي كلّ ذلك بدت النهضة، وربّما في انفراد عن البقية، حزبا منظّما تنشط كلّ هياكله في إطار ديمقراطي وتجتمع بشكل دوري لتقييم المستجدات واتخاذ المواقف، مثلما يعكس ذلك بلاغاتها وبياناتها وأنشطتها المختلفة. ونجحت إلى حدّ كبير في ضمان وحدتها وتجنّب الانقسامات التي أضحت سمة غالبة في المشهد الحزبي التونسي. كما توفّقت في أن يكون لها زعيم قائد قادر على التجميع والتأليف وصاحب رؤية واضحة للفعل والمبادرة والمناورة، هو الأستاذ راشد الغنوشي. الحديث عن النهضة أنّها وراء كل شيء، أصبح اليوم مهتزا ومناقضا لقوانين الأشياء ومنطق الوقائع: هل المشكلة في النهضة لتحمل في جوفها كلّ هذه التناقضات وكلّ هذا التشويش والاضطراب والازدواجية بين الخطاب وممارسة مختلف أشكال التلاعب والمخاتلة وتستطيع البقاء بل هي تتمدّد؟ هل هو دهاء سياسي باهر خبّأ وجها قبيحا للنهضة وغلّفه بمقولات وسلوكات برّاقة وجذّابة؟ أين الخلل؟ المشكلة، على الأرجح وتحكيما للعقل والمنطق، ليست كلّها في النهضة. بل إنّ جزءها الأكبر في الآخرين، أي خصومها الذين يرفضون التعامل معها كمنافس ويعتبرونها عدوا. وهذا المنشأ الأصلي لكلّ تلك الاتهامات، فأن لا تعتبر خصمك شريكا لك في العملية السياسيّة على قاعدة المشتركات الوطنية وقوانين الديمقراطية والتداول السلمي فذلك مدخل الى تجاوز كل الاعتبارات والانغماس في متاهة التجريم والتخوين وكيل الاتهامات. ولا شكّ في قابليّة الفعل النهضاوي للنقد والتقييم خاصة أنّ النهضة اكتشفت عوالم السلطة والدولة مع الثورة وتجربة الترويكا أي بعد ثلاثين سنة من تأسيسها. ومن المؤكّد أنّ عجز خصوم النهضة، باستثناء تجربة نداء تونس مع الباجي قائد السبسي، عن تأسيس أحزاب قويّة وازنة قادرة على المنافسة الانتخابية وهيمنة التشتّت الحزبي والتنظيمي غذّى بشكل سلبي الهجمات المتواصلة على النهضة في محاولة للحدّ من تقدّمها والعمل على إرباكها بكل الطرق الممكنة من إشاعة وكذب وتزييف ومغالطة وتلبيس، باستخدام المقولة الشهيرة «الغاية تبرّر الوسيلة». ولكن ... هل تحقّقت الغاية؟ هل انكمشت النهضة؟ هل تراجعت عن موقعها المتقدّم؟ هل فقدت قدرتها على التفاعل مع المتغيّرات المتسارعة وامتصاص الصدمات ومخططات التدمير وأجندات الاستئصال التي تستهدفها؟ هل عجزت عن إنفاذ مخرجات مؤتمرها الوطني ومقرّرات هياكلها القياديّة؟ وأخيرا هل تقدّم خصومها؟ على العكس تماما، الآخرون هم الذين يتراجعون مع كلّ محطّة سياسية أو انتخابيّة ويفقدون كمّا من أنصارهم ويزدادون تشتتا وفرقة وشقوقا (وهذا واقع لا ينكره إلاّ دون عقل وبصيرة)، فاسحين بذلك المجال للنهضة كي تتقدّم خطوات إضافيّة في مسار الريادة الحزبيّة والشعبية (الانتخابية) والوطنيّة (في علاقة بمزيد التماهي مع مؤسّسات الدولة وفهم نواميس الحكم ومستلزماته). كان من الأحرى أن يذهب خصوم النهضة إلى تأسيس كيانات حزبيّة صلبة وذات مقاربات فكرية وأيديولوجية وطنيّة هادفة مؤمنة بالديمقراطية وقيم العيش المشترك في ظلّ الاختلاف، لا المواصلة في سرديّة العداء للنهضة على قاعدة الضديّة المتطرفة الإقصائية الانقلابيّة. وهي السرديّة التي أثبتت عجزها ومجّتها الأنفس والعقول. ورغم تلك السرديّة العَدَميّة وتلك الإسطوانات المشروخة وتلك التراجيديا العدائيّة التي يشقى فيها كثيرون ورغم حالة السيكيزروفينا التي فصلت كثيرين عن الواقع وصعّبت عليهم فهم خصائصه وتحوّلاته وجعلتهم يعتبرون النهضة «كل شيء» و»لا شيء» في آن واحد، برغم ذلك كلّه باتت النهضة الواقع العنيد والرقم الصعب في الحياة السياسية في تونس. فالجميع (بمن فيهم الأعداء)، ومنذ أكثر من أسبوع، ينتظرون عودة «الشيخ راشد الغنوشي» من سفره لحلحلة الأزمة الماثلة وإزاحة الكثير من الضبابيّة التي ضربت المشهد السياسي ولاستشراف السيناريوهات الممكنة لمستقبل العمليّة السياسيّة برمّتها في البلاد في علاقة بمآل وثيقة قرطاج 2 وتحديد مصير الشاهد أو طبيعة الفريق الحكومي الجديد.