بعد الإعلان عن نتائج الباكالوريا يصل المتفوقون إلى مرحلة اختيار الشعب التي سيواصلون تخصصهم الجامعي فيها. لكن بقاع المعاهد الكبرى قد تبدو محدودة مقارنة بحاجيات النخب، مما يهدد بضياع مستقبلهم في زحام الجامعات «العادية». تونس «الشروق» يجد تلاميذ المعاهد النموذجية والتلاميذ المتفوقون عموما في مسيرتهم الدراسية أنفسهم وسط حيرة البحث عن تخصص جامعي في كلية تتناسب مع تميزهم واجتهادهم لسنوات. لكن يبدو أن المعاهد الكبرى في مؤسسات التعليم العالي والمختصة في احتضان المتفوقين في تونس محدودة. «نحن نقف اليوم أمام مثال واضح وجليّ لغياب التّخطيط العلميّ والحوكمة الرّشيدة. فأعداد التّلاميذ المتفوّقين تبلغ الآلاف. وهم لا يمثّلون فقط كنزا لا يقدّر بثمن، يمكن التّعويل عليه لبناء دولة متطوّرة اقتصاديّا وأخلاقيّا وإنسانيّا.ولكنّهم، وهذا هو الأهمّ، يحملون جينات التّميّز والتّفوّق والمثابرة والوطنيّة التي ورثوها عن أسرهم ومدرّسيهم وبيئتهم،. ويُنتظر أن ينقلوها إلى الأجيال القادمة لتتواصل سلسلة الازدهار والرّقيّ. فماذا نفعل بهذه البذور التي تحمل رحيق الأمّة وجوهر كيانها؟» وفقا لتعبير رئيس جمعية جودة التعليم سليم قاسم. «معارك» فردية تبدو آفاق الدراسة في الجامعة غامضة أمام المتفوقين. وهنا تروي قدس البراهمي المتحصلة على المرتبة الأولى في معهد الإنسانيات بقفصة (اختصاص علم الاجتماع) تجربتها. فبعد أن كانت متفوقة طيلة فترة دراستها الثانوية والأولى في القسم وجدت نفسها تمرض في الباكالوريا وتنجح بمعدل عادي. لكن حتى من تعرفهم من المتفوقين يجدون أنفسهم في كليات عادية. وكأنهم يعودون الى التصنيف العادي بعد مسيرة الاجتهاد والتفوق. وقالت :"يجد الطالب الذي كان متفوقا نفسه ضائعا في بعض الجامعات، وأحيانا يكون توجيهه كأنه طعنة أو تقليلا من شأنه. وهو ما يلحظه في عيون المحيطين به. لا وجود لمعاهد كبرى واضحة. والتفرقة بين الجميع تنطلق من الثانوي بين متفوق وتلميذ نموذجي وتلميذ عادي». واعتبرت أن الإشكال أكبر بالنسبة إلى تلاميذ شعبة الآداب من المتفوقين وكأن من يدرس الآداب هو من درجة متدنية. وفي المقابل قالت إن معركة النجاح والتفوق في الجامعة هي معركة ذاتية. فالتلميذ المتفوق يجتهد عندما يلتحق بالجامعة وإن لم يكن الاختصاص الذي يحلم به فهو يحاول التميز، وتدارك ما قد يكون ضيعه، مهما كان تخصصه ليبرز من جديد. وهو ما حاولت القيام به مع زملائها في الجامعة من خلال خلق نواد خلقت الديناميكية في مؤسستهم وجعلتها أكثر إشعاعا. وقالت «للأسف المتفوقون في تونس لا يصلون بعيدا بسبب غياب درس واضح لطريقة توجيههم. ويبقى المحظوظون القلة من بضع عشرات تنفق الدولة لدراستهم بالخارج أو من أبناء الميسورين الذين يدرسون في الجامعات الخاصة أو ترسلهم عائلاتهم إلى الخارج». وتحدث أحد خريجي المعهد النموذجي بسوسة عن تجربته مع زملائه. حيث درس 70 بالمائة منهم بالخارج. ولا ينوون العودة الى البلاد. فيما فضل هو البقاء في تونس في أحد المعاهد التحضيرية. لكن سوء الاختيار جعله يترك طريق التفوق لأن إمكانياته المادية لا تخول له دراسة حلمه في التخصص في الهندسة المعمارية. وهو ما جعله يضيع في الزحام بعد تفوق ونجاح بأكثر من 17 في الباكالوريا. مسالك للمتفوقين رغم تخصيص وزارة التعليم العالي دورة للمتفوقين، فإن عدد البقاع محدود في بعض المعاهد. ويترشح لهذه الدورة كل تلميذ تتوفر فيه جملة من الشروط منها النجاح في الدورة الرئيسية، من الباكالوريا بمعدل يساوي أو يفوق في شعبة الآداب 14 من 20، وفي شعب الرياضيات والعلوم التقنية والعلوم التجريبية 16 من 20 . ويمكن التوجه في تونس الى الدراسة في المرحلة التحضيرية العلمية والتقنية بالمعهد التحضيري للدراسات العلمية والتقنية بالمرسى. أما في فرنسا فيتوجه المتفوقون نحو المرحلة التحضيرية العلمية. ويمكنهم المشاركة في مناظرات الالتحاق بمراحل تكوين المهندسين بتونس وبالمدارس العليا للهندسة بفرنسا وتكون الدراسة في اختصاصي رياضيات فيزياء وعلوم الهندسة والفيزياء والكيمياء . أما بالنسبة إلى الإجازة في الآداب والحضارة الفرنسية، فيمكنهم متابعة التكوين في إجازة الآداب والحضارة الفرنسية بجامعة السوربون باريس4. كما يتم فتح الآفاق للدراسة بالجامعة الألمانية لمتابعة المسار الهندسي بالنسبة إلى المتفوقين في شعبة «الرياضيات»، و»العلوم التقنية» أو «العلوم التجريبية». ويتم التكوين في المسار الهندسيBachelor-Master: Génie . كما يتوجه المتفوقون عادة إلى الشعب ذات التشغيلية العالية. وهي الطب والاختصاصات شبه الطبية والتربية والإجازات التطبيقية والمراحل التحضيرية والهندسة. شبكات رافضة ؟ أمام قلة الفرص أمام الآلاف من التلاميذ المتفوقين، يبدو «الحل في تكثيف شبكة المؤسّسات الجامعيّة الخاصّة بالنّخبة وتوفير أفضل المدرّسين التّونسيّين والأجانب للعمل بها. وهو حلّ في المتناول ولا يمكن تفسير عدم اعتماده إلاّ بتأثيرات شبكات الضّغط لبعض المهن التي يرى أصحابها في الطّلبة المتفوّقين منافسين لهم. وهو ما يفسّر القيود المذهلة التي تفرضها عمادات بعض المهن على المتخرّجين الجدد، إلى جانب الضغوط الخارجيّة التي يرغب أصحابها في الحصول على الطّالب التّونسيّ كمادّة أوّليّة تطوّعها وتستغلّها. ولنتذكّر معا كيف رفضت بعض الدّول الصّديقة في بداية الاستقلال أن تؤسّس مدرسة للمهندسين، وكيف تحدّى رجالات بررة على رأسهم العميد المرحوم المختار العتيري كلّ الصّعوبات وأسّسوا المدرسة الوطنيّة للمهندسين التي تخرّج منها بناة دولة الاستقلال في مختلف القطاعات» حسب سليم قاسم الذي أضاف القول «نحن في حاجة إلى الطّينة النّادرة من المسؤولين الحاملين للمشروع الوطنيّ والمخلصين للأرض التي أنجبتهم لإعادة إطلاق ديناميكيّة البناء، خاصّة أنّ جميع العوامل المساعدة على ذلك موجودة. وأهمّها جيل من النّوابغ المتعلّقين ببلدهم والمستعدّين لخدمته متى توفّر لهم الحدّ الأدنى من المتطلّبات». وزير التعليم العالي ل«الشروق» ترتيب الجامعات التونسية في تحسن خلال حديث للسيد وزير التعليم العالي خص به «الشروق» تساءلنا عن أسباب غياب المعاهد الكبرى القادرة على استقطاب الطلبة من التلاميذ المتفوقين وممن اجتهدوا سواء في المعاهد النموذجية أو العمومية، مما يجعل أغلبهم يفضلون الخروج للدراسة في الخارج وكثيرا ما يتم استقطابهم لتستفيد منهم الدول المتقدمة. فأجاب الوزير أنه من غير المبرمج إحداث معاهد جديدة كليا خاصة مع توقعات تراجع عدد الطلبة في تونس مع تراجع النمو الديمغرافي في بلادنا. لكن السبب الآخر الذي ذكره هو -على عكس ما يعتقده الكثيرون- أن الكثير من الجامعات التونسية تحسن ترتيبها عالميا. وهي قادرة على احتضان المتفوقين وتكوينهم . والاتجاه في الوزارة هو العمل على تحسين جودة التكوين والتأهيل والرفع من القيمة العلمية لعدد من الجامعات حتى تواصل تحسين ترتيبها وقيمتها بدلا من إحداث كليات أخرى. وأشار إلى القيمة الكبرى لكليات الطب في بلادنا وكليات الهندسة وجامعة قرطاج والشهادات الجامعية التونسية لا سيما في عدد من المؤسسات المعترف بها والمطلوبة دوليا. سليم قاسم رئيس جمعية جودة التعليم تونس في حاجة إلى جامعات «النخبة» نحن نضيّق على الأجيال المتفوقة. ونمعن في التّضييق. ونحرمها من التّربة الخصبة التي يمكن أن تنمو فيها وتزهر وتعطي أطيب الثّمرات، وأن تؤسّس لدورات جديدة من التّطوّر والتّميّز. فالكلّيّات الجديرة باستقبال هذه النّخبة تعدّ على أصابع اليد الواحدة تقريبا، وطاقة استيعابها لا تتجاوز بضع مئات. وهي إلى جانب ذلك كثيرا ما تشهد أنواعا شتّى من التّضييقات التي تمنعها من العمل في ظروف عاديّة. وما مرّت به المدرسة التونسية للتقنيات (البوليتكنيك) منذ مدّة غير بعيدة ما زال ماثلا في الأذهان، فضلا على تقلّص أعداد المدرّسين القادرين على مجاراة نسق العمل في مثل هذه البيئات لأسباب شتّى أهمّها هجرة الأدمغة. وفي المقابل نرى كيف تتسابق أكبر الجامعات الدّوليّة وأعرقها على استقطاب النّخبة من طلبتنا ومنحهم شتّى الحوافز وإحاطتهم بكلّ عوامل النّجاح،أمام لامبالاة مذهلة من سلطة الإشراف، وأمام تحوّل بعض الهياكل والجمعيّات والأفراد إلى وكالات انتداب بالمناولة، فضلا على عمليّات الانتداب المباشر التي تتمّ عبر قنوات التّواصل الإلكترونيّ... أمّا باقي الناجحين المتميّزين الذين لا يسعفهم الحظّ للالتحاق بمؤسّسة مرموقة في بلدهم أو في الخارج، فإنّ السّبل تتقطّع بالعديد منهم حين يجدون أنفسهم في مؤسّسات لا ترقى إلى طموحاتهم وأمام برامج تجاوزتها الأحداث ومدرّسين يعانون صعوبات شتّى بعضها ناجم عن المنظومة والبعض الآخر يعود إلى تكوينهم وقدراتهم.