عاشت الثورة " المجيدة " داعمة للحرّية في كلّ شيء وإلى أبعد الحدود، وخاصّة في الفنون بما أنّها مجال الإبداع الذي يصل إلى البدعة في الأصل اللّغوي المشترك. ومن تلك الفنون التصوير والكتابة على الجدران ممّا يعرف بالقرافيتي (Graffiti) وقد تلطّخت بألوانه وأشكاله الجدران وتشوّهت بعجائبه مناظر مدننا في الأنهج والساحات، دون استثناء المؤسّسات العموميّة بما فيها المدارس والمعاهد ودور الثقافة والشباب ورياض الأطفال. ويا لها من ألوان وأشكال وخطوط وعبارات ! بل هي أقرب إلى هستيريا المجانين منها إلى الإبداع الحقّ والذوق السليم. سيقولون : « عن أيّ ذوق تتحدّث ؟ وإنّما الأذواق مختلفة، وهذا ذوق شباب اليوم، أمّا أنت وأمثالك فمن جيل تولّى «. وسأردّ عليهم بأنّ الأذواق وإن اختلفت بين الأعمار وتفاوتت بين الأجيال وتباينت بين العصور فإنّ لها حدّا معقولا لا تتدنّى تحته، وهوالقاسم المشترك بين الجميع على اختلاف العباد والبلاد عبر الزمان . والذوق السليم – في حدّه الأدنى المشترك – مقوّم من مقوّمات الهويّة يورّث وينمّى بالتربية من البيئة الأولى إلى ما بعدها. وهوفي نفس الوقت عنصر توحيد بين أجيال الأمّة وجسر تواصل بين فئات المجتمع. وسيقولون لي بالذّات : « كم أنت كلاسيكي في كلّ شيء، من ذوقك إلى لباسك وطعامك. وإنّما نحن شباب هذا الوقت لنا موسيقانا، ولنا مسرحنا، ولنا أفلامنا، ولنا لباس ولنا طعام». وسأقول لهم : « أيّها الشباب، لكم دينكم ولي ديني. ولكم حرّيتكم فيما تحبّون وتكرهون، ولكن ليكن الجمال من قيمكم مقياسا لما تختارون وتلغون، فإنّه سرّ هذا الوجود، بل علامة هذه الحياة، بعضه في الدنيا وأكثره في الآخرة ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. والله، إن كنتم مؤمنين بكتاب من كتبه ومصدّقين لرسول من رسله، جميل، يحبّ الجمال، وقد خلقه وبثّه في مخلوقاته وتفضّل على الإنسان بالنصيب الأوفر منه «. وسيقولون : « الجمال أيضا مختلف في تقديره، فما تراه قبيحا نراه نحن جميلا «. وسأقول لهم، مرّة أخرى : « قد نختلف في الرأي فيما هوقابل للاختلاف حسب وجهات النظر واختلاف المقاييس، ولكنّ الجمال قيمة واحدة موحّدة، لا تقبل الاختلاف، فإمّا أن تكون موجودة وإمّا أن تكون مفقودة. وتظلّ دائما منشودة توقا إلى الكمال، والكمال لله كالجمال المطلق. وإنّما حظّنا من الجمال والكمال ما نقدر عليه ونجتهد في طلبه من وحي ما خلق وصوّر ". ولا ألوم أحدا ممّن يقتلون أوقاتهم في النّقر الفايسبوكي حتّى أثناء قطع الطريق، وإنّما ألوم الأولياء والمربّين ومن ورائهم المؤسّسة التربويّة والثقافيّة على التقصير بالوسائل والطرائق في احتضان الشباب وترقية الأذواق بروائع الفنون المعروضة في متاحف العالم والخالدة في أشهر المعالم من زخارف العمارة وبدائع الرسم إلى كلاسيكيّات الموسيقى ومفاتن الموضة، وإلاّ فإنّ التكنولوجيا المتقدّمة لشعب متخلّف لا تزيده إلاّ تخلّفا، والعالم من حوله يتقدّم عليه ضاحكا مطمئنّا.