يعشق الأمريكي الكبر... ويتباهى بالأرقام القياسية حتى في الأشياء السلبية.. يحب أن يذهب بحدود الأشياء إلى اللامنتهى إن قدر... شوارع المدن فسيحة كبيرة.. ناطحات السحاب يمددون إمتدادها المهول بساريات عملاقة علها تطال النجوم بعد السحاب فتصبح ناطحات أقمار... أما الأمريكي نفسه فيكبر حجمه حد الخرافة حتى لتخال نفسك أحيانا في بلاد العمالقة... منهاتن بلد الجن والملائكة الكتابة عن مجتمع نيويورك جميلة وان صعب جمع مميزات هذا العالم الغريب وطرائفه في مقالة واحدة. هذا المجتمع متفرد متميز ولعل ميزته الرئيسية هي في تنوعه بحيث تراه وقد اختزل العالم جميعه فلا يشعر داخله إنسان بالغربة.. هنا في منهاتن... أنت دائما بين اهلك وبني جنسك مهما كانت جنسيتك ولونك ولغتك وشكل لباسك.. فأهلا بك في نيويورك زائرا وسائحا ومقيما إن أمكن لك ذلك... ولكن هل يعني ذلك أن الشعب الأمريكي بكل هذه الأريحية والتعاون والطيبة ؟ في الحقيقة وبالرغم من إقامتنا في هذه المدينة العظيمة فترة شهرين تقريبا إلا أننا لم نكون فكرة واضحة عن هذا الشعب... من حيث طبعه وطريقة تعامله وأسلوبه في الحياة.. ولعل هذا يعود إلى طبيعة الشعب الأمريكي نفسه وخصوصيته لاختلاف جذوره وانتماءاته وعاداته...
اختلاف – والتقاء أول ما يلاحظه القادم إلى نيويورك هو بشاشة الشعب الأمريكي واستعداده لسماعك ومحاورتك ومساعدتك وهي طبيعة عامة في هذه المدينة الكبيرة التي تختزل شوارعها أجناس العالم جميعا بين خليط متوزع على فرق وكأنك في متحف أو معرض للأجناس.. في التجارة مثلا تلاحظ بسهولة أنها مجال تركه الأمريكيون من الأصل الأوروبي فسيحا لغيرهم من الأجناس مثل الأمريكيين من أصل آسيوي أو إفريقي أو عربي وهكذا تجد في كل محل تشكيلة من أصل معيّن فهذا محمل صيني وذاك باكستاني والآخر هندي والرابع مصري أو لبناني أو مكسيكي. ولئن جمعت اللغة الانقليزية هؤلاء كلهم ليصح أن يطلق عليهم إسم "شعب" إلا أن اللغة نفسها مختلفة في نطقها وقد يتوقف شريط الرطن لتتخلله مداخلة باللغة الأصلية لمستعملها... الإختلاف في الأثناء ليس في الشكل والجنس فحسب بل هو في طبيعة الأعمال التي يمارسها الأمريكيون من البيض والآخرون من بقية الأجناس فإذا استثنينا العباقرة ومن يوصفون بالأدمغة وأولائك الذين حالفهم الحظ فإن الفروقات بين الأجناس تبقى واسعة وملحوظة بصفة جلية وتؤكده لك الممارسة اليومية الحياتية. فأنت من النادر أن تتعامل مع أمريكي أبيض خارج المؤسسات الكبرى والإدارات الفخمة.. في الحافلة مثلا أو التاكسي أو في خدمة المقاهي أو المحلات التجارية او النزل... فالأبيض لا يخدم ولا يتعاطى إلا مع الوظائف التي تليق بالسيد الأبيض. قضية العم سام لا تنتهي ! هذه النقطة لا تزال في الأثناء محل جدل كبير في الولاياتالمتحدة بين البيض والسود. فهؤلاء ما زالوا يعانون تركة يهود الاستعباد ولئن يعيش الجميع تحت مشعل تمثال الحرية وشعاراته إلا أن هذا المشعل لا ينير كل النقاط بنفس الدرجة ولا يوزع نوره ليشمل كل زوايا الظل. هذا الأمر سرعان ما يلاحظه الزائر من خلال صعاليك المدينة ومهمشيها الذين يبرزون مع بداية حلول الظلام وتتضح معالمهم مع تقدم الليل فتراهم على الأرصفة ينامون وداخل محطات الأنفاق والقطارات يفترشون الأرض في انتظار يوم آخر... وكل صعاليك نيويورك تقريبا من السود أو الهنود. ويؤكد "ريتشارد سيبو" وهو معين في محل لبيع الأطعمة الجاهزة في حي منهاتن التجاري الشهير أن عقلية الأمريكي بالرغم من كل القوانين وشعارات الحرية وحقوق الإنسان ما تزال لم تتحرر كليا من نظرة الدون المورثة تجاه السود. ويقول "سيبو" وهوة شاب أسود أصيل الجنوب الأمريكي إن فرص التشغيل مثلا غير متكافئة بالمرة فالأسود ما يزال يلاقي صعوبات في الحصول على عمل داخل مؤسسات معينة أو كذلك في خصوص الترفيه وفرص الحصول على مناصب عليا. "بياتريس" وهي مواطنة سوداء من جزر "برمودا وانتيغا" بأمريكا اللاتينية وتعمل موظفة بالأمم المتحدة تقول عن هذا الموضوع أن كليهما أي البيض والسود لم ينسيا واقع الأجيال الماضية ولم يتجاوزوه... فالأبيض لا يزال يعتبر نفسه سيدا فهو الذي يضع القانون وهو الذي يرسم مقاييس الآداب والجمال وحسن التصرف... وهكذا فكل ما عدى ذلك هو خروج عن القاعدة والمألوف... ولا يلزمه. أما الأسود الذي كان مطحونا ومسحوقا لعهود طويلة فهو رغم تغير الزمن والظرف لم ينس حقده القديم. وفي الحقيقة فإن الظروف الاجتماعية والحياتية عموما للسود لا تساعد على النسيان رغم تحسنها الكبير عما كانت عليه "وحي هارلم" خير دليل على ذلك. مغامرة داخل "هارلم" "هارلم" هو أكبر تجمع للسود في نيويورك ولا يذكر اسم هذا الحي إلا ويكون مقرونا بالخطر والجريمة والانحراف وينصحك البيض إلا تدخل هذا المكان إلا مصحوبا بجماعة من السود وإلا فإنك لن تعود بسلام... ولكن الأمر بالنسبة إلينا كان مختلفا.. فهذا الحي كان لنا مثل كل الأحياء الشعبية ذات الكثافة السكانية قد يكون ينطوي على منحرفين ومجرمين وحاقدين ولكنهم حتما لا يستهدفون زورا أفارقة يقظين حذرين وليسوا عنصرين. مجموعتنا كانت تضم "بياتريس" و "دانتي" وهو صحافي من جنوب إفريقيا وأنا.. تحركنا بآلات تصورينا وأجهزتنا في اتجاه هارلم... امتطينا الحافلة وبدأنا رحلة الاستطلاع.. شيئا فشيئا بدأت ناطحات السحاب تقل والمباني تقصر.. وبدأ جمال الشوارع ينطوي وكذلك نظافتها ثم تراءت لنا مباني قديمة داكنة خالية من كل جمال تعلو جدرانها الكتابة الحائطية الملونة باحرف كبيرة ناقمة ثم لاح لنا "هارلم" ومعه خفت حركة البيض وقل وجودهم وتكثف الوجود الأسود حتى لكأنك غادرت إلى قارة جديدة... الزنوج : نحن أفارقة بحذر شديد توغلنا داخل الحي ولكن ورغم الوجوه الغريبة التي طالعتنا بلباسها المتفرد وطرق تسريحة الشعر وأنواع الزينة وألوان اللباس إلا أننا اندمجنا بعد فترة في الجو العام... كانوا ينظرون إلينا بطريقة من يقول أنتم غرباء نعرف ذلك ولكنكم لنا أصحاب... بائع الحقائب اليدوية أصر على أن نشتري منه شيئا حتى يعبر لنا عن سعادته بلقائنا حين عرف أننا من إفريقيا.. قال إدفعوا نصف الثمن فحسب مركدا أن جذوره إفريقية ومن السنغال أساسا... ثم راح يستعرض معارفه الافريقية فحدثنا عن المغرب والجزائر وتونس وعن العراق وحرب الخليج والتحق به زنجيان آخران ليدور حوار ثري وهام وعلى درجة من الوعي عجبنا له جميعا. "أكيلي" وهذا إسمه عاد بعد جولته في آسيا وإفريقيا إلى "هارلم" ليقول لنا أن السود الأمريكيين يختلفون في عيشهم داخل حي "هارلم" هذا عن بقية الأمريكيين وقد نجحوا عموما في تكوين هوية خاصة بهم وهي هوية جسدوها في طريقة اللباس وتسريحات الشعر والفنون التعبيرية عموما وحتى أسلوب الحياة يضيف أكيلي أكثر حميمية واقترابا والعلاقات أكثر حرارة وتعاونا... ومن حي الزنوج مررنا إلى مدينة الجنس الأصفر "تساينا تاون" ذلك الحي الذي ينقلك في لحظات من نيويورك إلى الصين، هناك كل شيء صيني.. الوجوه، الكتابات، الأكلات، الديكور... السلع المباعة. ويلاحظ الزائر هنا كما في "هارلم" الفروقات الكبيرة في ظروف المعيشة العالم الثالث الفقير الذي لا حرج عليه أن هو تهاون بالنظافة أو المظهر العام للمباني والمحلات هنا تشعر وأن المناخ آخر وأن المحيط آخر وأن المسؤولين في عطلة طويلة ولا يريدون ازعاجا... الهمبورغر بالكوكا الأمريكي عموما يحب الأكل ويعشق التجول في الشوارع ماسكا الهمبورغر وكأس الكوكا كولا البلاستيكي العملاق وقد ترى أحدهم يتجول وبيده طبقا من الطعام ينقّر ما به من أكل بالشوكة دون حرج... لذلك فأنت قد تدخل محل ألبسة فتجد مقاسات قد تصلح لفرس البحر تباع بطريقة عادية ومتوفرة بكميات كبيرة... كما قد تجد مقاسات للأحذية بحجم خيالي مضحك بالنسبة إلينا، فالأمريكي له قدرة على الامتداد والتوسع بجسده بطريقة غريبة رغم تطور وسائل التخسيس وحملات التوعية وما توفر في الأسواق من مواد استهلاكية قليلة الدهون او خيالية تمام منها ومن السكريات. أما اللباس فالأمريكي رغم حجمه العملاق يفضل الدجين والحذاء الرياضي سواء كان رجلا أو إمرأة وهذه الأخيرة مهما بلغ حجمها لا تتورع عن لبس البنطلون الدجين ولا تحرم نفسها من لباسها المفضل... والأمريكيون عادة لا يهتمون بمظهرهم الخارجي ومهما بلغ ثراؤهم هم لا ينفقون كثيرا على اللباس بل ولا يهتمون حتى بتنسيق الألوان أو البحث عما يتماشى وأجسامهم أو سنهم وما يليق الأكثر بهم لذلك فأنت ترى في الشوارع مظاهر غريبة وأنواعا منقرضة من اللباس فات زمانها أو هي لم توجد أساسا في دنيا الموضة. وإذا تخلت المواطنة الأمريكية عن الدجين ولبست كسوة أنيقة فغنها تنتعل معها الحذاء الرياضي ومعه جوارب صوفية وهي ظاهرة عادية في شوارع نيويورك التي يعشق أهلها المشي على الأقدام في شوارعها. ولهل هذه الليونة في التعامل مع الذات بحيث لا يرهق الأمريكي نفسه كثيرا ولا يتعامل إلا مع الأشياء التي تريح جسمه على الأقل وتجعله يحس بالاسترخاء والهدوء من الأشياء الهامة التي تؤثر إيجابيا في نفسيته، فتجعله مبتسما دائما مرتاحا بعيدا عن الانفعالات والتوترات.. حتى أن إحدى الصديقات الأوروبيات قالت عن أبناء نيويورك "إنه الشعب الباسم" عالم آخر هي نيويورك فعلا... ولاستيفاء الحديث عن كل مظاهر العيش فيها لا بد من العودة في حلقة قادمة فإلى اللقاء ربما ! في زيارة إلى واشنطن المرة القادمة. مقال خاص بقلم : حذام عبدالسلام عيساوي