لاتزال جميلة بوحيرد وحيدة في مكتب المحقق العسكري بعد أن غادره القبطان غرزياني ومساعدوه لم تدر إن كان ذلك للاستراحة وجمع قواهم قبل جولة أخرى من الاستجوابات أم هي خدعة لجعلها تنهار وتعترف. مهكما كان الأمر فإن غيابهم كان بمثابة المتنفس استرجعت من خلاله ذكرياتها العذبة والأليمة. ضاق صدرها حين تذكرت العربي بن مهيدي وكادت تنفجر بكاء حين استحضرها ما أعلمها به أحد الممرضين في المستشفى، يوم قُبض عليها والدم يسيل من كتفها المصاب برصاصة، أن القائد «زباطا» اغتيل تحت التعذيب من طرف المظليين بعد أن يئسوا من اقتلاع أي اعتراف منه عن التنظيم ومخابئ القيادين ياسف سعدي وعلى لابوانت وعن أماكن تخبئه الأسلحة والمتفجرات. وعاودت جميلة رغبة البكاء لكنها عضّت على شفتها وتنفست ملء صدرها حتى لا ترق أو تضعف لكن ذلك لم يمنعها من الإحساس بألم جارح كأنها أصيبت بطعنة خفيّة وهي تستعيد ما قاله لها ذلك الممرض ذي اللكنة اليهودية الجزائرية حين روى لها العذاب الذي سلطه المظليون الوحوش على العربي بن مهيدي حتى أنهم سلخوا جلد وجهه بالكامل. ولما لم يقدروا على جعله يعترف تقدم اليه الضابط المسعور المدعو بول أوساريس وقتله شنقا بيده. لم تكن جميلة تنتظر قبل ذلك اليوم، يوم 30 سبتمبر 1956 أن تطلب منها القيادة العليا للثورة أن تزرع القنابل، وهي الى اليوم ماتزال أسئلة كثيرة تتفاعل داخلها، وهي نفس الأسئلة الحائرة التي أثارها في نفوس زميلاتها زهرة ظريف وسامية لخضري قرار زرع القنابل في المقاهي الذي أعلمهن به ياسف السعدي. ولاحظ السعدي حيرتهن وقلقهن فانطلق في التحدث عن ما شاهده بعينيه من أشلاء الجزائريين وما سمعه من بكاء النساء والأطفال ليلة 10 أوت في نهج طيبة. لقد رأيت رجالا بطرت أعضاؤهم ونساء قطعت أوصالهن ورأيت كهلا ميّتا يمسك بنته الميتة لم ينجح أحد منّا في فصلهما. لقد كانت مأساة لا توصف. لقد كانت مجزرة ذهب ضحيتها أكثر من سبعين بريئا من بينهم تسعة أطفال صغار. لقد جاؤونا الى هنا ، الى بيوتنا، الى القصبة ليغتالونا ونحن نيام. هل نسكت؟ هل نقبل؟ هل نعطيهم خدّنا الآخر؟ نحن لسنا ارهابيين. هم الارهابيون. نحن ندافع عن حقوقنا المسلوبة ونحن اليوم مطالبون بالثأر لأبريائنا. ثم سكت لحظة ونادى رافعا قبضته «تحيا الجزائر تحيا الأفلان».