مثلت الندوة التي نظّمتها الأسبوع الفارط الجمعيّة التونسيّة لقدماء السّفراء والقناصل العاميّن بالتعاون مع جمعيّة الدراسات الدّولية وغيرها فرصة فكريّة هامّة مفعمة بمشاعر الوطنية فائقة الصدّق للتحسيس بأهمّية اقبال تونس على عضوية دائمة في مجلس الأمن في مرحلة داخليّة وخارجيّة دقيقة تتطلب وعيا كاملا بالأدوار المطلوبة من بلادنا في هذه المؤسّسة الأمميّة الهامّة. هي بالتأكيد فرصة تاريخية سانحة لتونس كي تضطلع بدورين هامين استراتيجيين في تقديري. يتمثل الأول في خدمة مصالحها الحيوية واسترجاع صورتها الحضارية المشرقة التي تداعت للأسف خلال السنوات الثماني الماضية بفعل النزعة الشعبوية التي سلكها بعض حكام المرحلة الماضية في تونس في التعاطي مع ملفات إقليميّة دقيقة وخاصّة الملفين الليبي والسّوري. وكان من النتائج المريرة والوخيمة لهذا النهج وقوع تونس في لعبة التجاذبات وسقوطها في فخ المزايدات السياسوية ناهيك الصورة المظلمة التي اكتسبتها تونس كبلد مصدر للارهابيين وممول للارهاب حسب الكثير من التصنيفات الدّولية. ومّما زاد الطين بلة إدراج تونس في قائمات سوداء موازية أضرت كثيرا بصورتها ومصداقية العالم فيها. لذلك ينبغي العمل بفاعلية كبرى في رحاب مجلس الأمن لتنقية هذه الصورة القاتمة وإعادة الاعتبار لدبلوماسية الهدوء والعقل والرّصانة المعهودة من قبل في تونس منذ عهد الآباء المؤسّسين للدبلوماسيّة وفي مقدمتهم الزعماء الرّاحلون الحبيب بورقيبة والمنجي سليم ورشيد إدريس، وهذا الدّور يتطلب قدرا كبيرا من الشّجاعة والجرأة والتحلي بروح المسؤولية واكتساب خصال الوطنية الصّادقة حتى يعرف العالم داخل مجلس الأمن وخارجه أن تونس بصدد العودة إلى مسارها الدبلوماسي والحضاري الأصيل الذي عرفت به منذ الاستقلال وبناء الدّولة الحديثة. ينبغي أن يكون صوت تونس المقبل في مجلس الأمن خطاب الرّصانة والحكمة والعقلانية في التعاطي مع كل الملفات الاقليميّة والدّولية وبالخصوص الملفين الليبي والسّوري ونصرة القضية الفلسطينية والقضايا العالقة. ينبغي أن تعود تونس إلى ثوابتها ومرجعياتها وقيمها الحضاريّة والدبلوماسيّة الأصيلة حتى تسهم في حلّ القضايا الشائكة القريبة منها والبعيدة. الدّور الثاني الموكول إلى تونس داخل مجلس الأمن يتمثل في تقديري في الدّفاع عن مصالحها الحيوية والاقتصادية بالخصوص في مرحلة حرجة تواجه فيها تونس إفلاسا حقيقيا من مظاهره تراجع قيمة الدينار وارتفاع سقف المديونية والاستثمار وتدني المقدرة الشرائيّة للمواطن. هذه الأزمة الخانقة تتطلب من تونس اغتنام وجودها في مجلس الأمن لجذب المستثمرين ونسج شبكة من العلاقات الدبلوماسيّة الفاعلة وتدعيم علاقات بلادنا مع البلدان الشقيقة والصديقة وعقد صداقات جديدة. من تقديري بين الدور الأول والثاني علاقة تناغم وتفاعل لا انفصام فيها لأن الدّفاع عن صورة تونس تتطلب الدّفاع عن مصالحها بنفس الشجاعة والحكمة المطلوبتين. ولا شك أن النجاح في كسب رهانات هذين الدورين هو الاختبار الحقيقي لعودة تونس القويّة على الساحة الدّوليّة. والأكيد أنّ مبادرة الجمعيّة التونسيّة لقدماء السّفراء والقناصل العامين تؤكد أنّ العمل الجمعياتي في تونس مازال بخير وأنّ تونس تضمّ في ربوعها وطنين شرفاء صادقين همهم الوحيد خدمة مصلحة تونس وإعلاء شأنها ورايتها في كلّ المحافل. إنّه العمل الجمعياتي المطلوب الآن ودائما بعيدا عن ممارسات الكثير من الجمعيات المشبوهة التي تكاثرت خلال السنوات الماضية وساهمت في إذكاء أزمة البلاد والعباد وأضرّت بمصالح تونس وصورتها الحضاريّة المشرقة. اليوم المعركة باتت أكبر والرّهان أكثر جسامة لكن المستحيل بالتأكيد ليس تونسيا لو أمسكت بلادنا بزمام المبادرة في الداخل والخارج وأعادت الروح إلى دبلوماسيتها النشيطة. وهذا يقتضي التعويل على خبراتها وكفاءاتنا في المجال الدبلوماسي والاستئناس بأفكارهم وتصوّراتهم ومقترحاتهم بعيدا عن نهج الإقصاء والتهميش. تونس مدرسة في الدبلوماسيّة منذ الاستقلال ونجاحاتها مشهود بها ويقاس عليها، لذلك ينبغي الإصغاء إلى هذه المدرسة حتى يكون حضور تونس المقبل في مجلس الأمن حضور الفعل لا حضور الفرجة والأمر الواقع. إنّها مسؤولية جسيمة إزاء أنفسنا وإزاء العالم إمّا أن نكسب رهاناتها وإمّا أن نخفق لا قدّر الله ويزداد طين الأزمة بلّة.