رئيس الحكومة يقرر إقالة وزير الطاقة والمناجم والطاقات المتجددة وكذلك كاتب الدولة للمناجم بعد قرار تحجير السفر عليهما من طرف قضاة القطب القضائي المالي بمقولة إكتشاف فساد في إطار قضية تحقيقية وتولى رئيس الحكومة على ذلك الأساس تكليف كل من هيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية وهيئة الرقابة العامة للمالية بفتح تحقيق معمق في الوزارة بعد أن تولى إلحاقها بوزارة الإقتصاد. ما يهمنا بدرجة أولى هو صدور الإذن بتكليف هيئتي الرقابة مجتمعتين بالتدقيق والتحقيق في مسألة الفساد المزعومة، أقول مزعومة لأن الأصل في الإنسان البراءة والإدانة تمثل إستثناء ولا بد حينئذ من إنتظار مآل الأبحاث الجزائية والإدارية المأذون بها. فما هي إذن منظومة الرقابة العامة في تونس وهل لها فاعلية حقيقية بما يتماشى والمعايير الدولية والتجارب المقارنة؟ تتكون منظومة الرقابة العامة في تونس من ثلاث هيئات: -هيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية وتعمل تحت اشراف رئيس الحكومة. هيئة الرقابة العامة للمالية وتعمل تحت اشراف وزير المالية. هيئة الرقابة العامة لاملاك الدولة والشؤون العقارية وتعود بالنظر لوزير أملاك الدولة والشؤون العقارية. هذا بصرف النظر عن الهيئات الأخرى على غرار هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد الواقع إنشاؤها بقانون 24 أوت 2017 والهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية الأولى مستقلة والثانية هيكليا تابعة لرئاسة الجمهورية. حقيقة، ولئن كان لهذه الهيئات الثلاث وحسب النصوص الترتيبية المنشأة لها دور رقابي هام فإن دورها الوقائي يكاد يكون في حكم المعدوم حال كون الوقاية خيرا من العلاج. من حيث المادة القانونية، فإن مجال تدخل تلكم الهيئات لا يستهان به فالفصل الأول من قانون 12 أوت 2013 المتعلق بتنظيم ومشمولات هيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية « تمارس هيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية وظائفها في إطار دعم الحوكمة والشفافية والمساءلة وتكريس مبادئ حسن التصرف العمومي والحفاظ على المال العام» والمتمعن في واقع منظومة الرقابة العامة بجميع فصائلها يلاحظ قصورا واضحا في تحقيق الأهداف المرجوة ضرورة أن كثرة المهمات الرقابية إن حصلت حقيقة ليست بالضرورة حالة صحية طالما أنها لم تساهم في تغيير الواقع المعطل والمعطوب وذلك بكشف الحقائق وهتك أسرار الفساد الذي أصبح محصنا أيما حصانة ومنظما أيما تنظيم حتى أصبحنا نحكي عن هندسة فساد في البلاد. لا مراء في أن هيئات الرقابة الموجودة حاليا مكبلة من حيث هيكليتها وتنظيمها على حد السواء، لذا وجب تدخل المشرع لفك الطوق عنها وإطلاق يدها وهذه بعض مقترحات حلول لإصلاحها: * تمتيع الهيئات بالتعهد التلقائي بموجب الإشعارات والوشايات والإعلامات على ضوء تعهد هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد دون إنتظار أذون بمأمورية من السلطة التنفيذية كما هو الحال الآن فلا يعقل أن تكون الإدارة هي الخصم والحكم بداية ونهاية. * يجب أن تكون جميع الوزارات ومصالح الدولة عموما من مؤسسات ومنشآت عمومية والذوات التي تنتفع بمساهمات الدولة وكل الهياكل التي تسير مرفقا عموميا مهما كانت طبيعتها على قدم المساواة على مستوى الرقابة حتى لا يقع حجب بعض مواقع الفساد الموجودة خصوصا في وزارات السيادة ورئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية مع الإشارة وأنه وقع رفع الحجب في السنوات الأخيرة فوزارة الداخلية مثلا خضعت لمراقبة في خصوص بعض الصفقات العمومية وكذلك خضعت كل من رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة لمراقبة وتدقيق مالي وإداري ولكن عرضيا. * لا بد من تمكين هيئات الرقابة من آلية متابعة تنفيذ توصياتها وأعمالها على ضوء تقريرها الرقابي السنوي أو تقاريرها الأخرى وأن تعهد الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية بمتابعة تلكم التقارير كما هو الحال الآن غير كاف إن لم يكن غير ذي جدوى باعتبار أن الهيئة المذكورة تابعة لرئاسة الجمهورية إشرافا وبالتالي غير مستقلة بالوجه المقرر قانونا. * التقرير الرقابي النهائي الذي يحال على سلطة الإشراف المختصة كثيرا ما يقع التنصيص صلبه على اخلالات تصرف وخروقات ذات طابع جزائي ويتعذر على هيئة الرقابة التي أنجزته إحالة نسخة منه سواء على دائرة الزجر المالي أو القضاء العدلي وتحديدا النيابة العمومية وبالتالي وجب تلافي ذلك ضرورة أنه في غياب المحاسبة تفقد المراقبة جدواها وموجباتها أصلا. * يجب تمتيع هذه الهيئات بأوسع الصلاحيات وخصوصا صلاحية البحث والتفتيش مع تمكينها من حق الاطلاع والاستفسار والتقصي ولا تعارض بالسر المهني، على ضوء إدارة الجباية، كل ذلك في نطاق الشفافية والبحث عن سلامة التصرف من عدمه. * ضرورة نشر تقارير الرقابة بعد استيفاء الإجراءات القانونية لتمكين المواطن، دافع الضرائب، من الاطلاع عليها لأن عدم نشرها يناهض مبدأ الشفافية والمعايير الدولية الصادرة عن المنظمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة « الأنتوساي INTOSAI « خاصة وأن القانون المؤرخ في 24 مارس 2016 المتعلق بالحق في النفاذ للمعلومة لم يستثن النفاذ لأعمال هياكل الرقابة بجميع أنواعها وبالتالي فإن تلكم التقارير خاضعة للنفاذ وللنشر عموما. وأنتهي للقول بضرورة دمج هيئات الرقابة جميعا في هيئة واحدة تتمتع بالاستقلالية الإدارية والمالية بموجب نص قانوني تشريعي، لا ترتيبي، على ضوء بقية الهيئات الدستورية ويقع حينئذ فك ارتباطها بالسلطة التنفيذية كما هو الحال الآن وتطلق يدها في إنجاز أعمالها الرقابية بكامل الاستقلالية في كنف الشرعية وتحت إشراف السلطة التشريعية ومن هنا نضمن المردودية المنشودة. في كلمة، لا خلاص للبلاد طالما ان الهياكل الرقابية جميعها تابعة للسلطة التنفيذية فضلا عن كونها مكبلة بعديد العوائق التي تعيقها عن ممارسة صلاحياتها بكامل الاستقلالية والحرية في كنف الشفافية والمردودية...