تُساهم حركة النهضة باستمرار، وبشكل عميق وحاسم، في صناعة فاعلين سياسيّين مهمّين، وتدفع بجهدها الآن من أجل بلورة مشهد جديد بعد أن امتلكت مفاتيح التحوّلات السياسية الممكنة والمفترضة. تونس الشروق: بشكل أو بآخر، ومثلما كانت وراء صعود كثيرين، من الأشخاص والأحزاب، تقفُ النهضة اليوم وراء استمراريّة الحكومة الحالية ورئيسها يوسف الشاهد، فلا اختلاف فإنّ أطروحتها بخصوص «الاستقرار الحكومي» انتصرت برغم ما واجهتها من إكراهات وأعاصير ومحاذير لا حصر لها، محاذير ردّدها القريب قبل البعيد ومنهم وجوه نهضوية بارزة. استراتيجيا نهضويّة جديدة هل أخفت يافطة الاستقرار الحكومي ملامح استراتيجيا نهضويّة جديدة سبقت بها سنة سياسيّة وانتخابيّة ساخنة؟ الأكيد أنّ فلسفة التوقّف عن تغيير الحكومات وضرورة التوجُّه الى تغيير السياسات أوّلا، فلسفة موضوعيّة لاقت ترحيبا واسعا من قطاعات وفئات مجتمعيّة عديدة وايضا تفهّما أو مباركة من الأطراف الخارجية الداعمة لتجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، فلقد اكّدت تجربة السنوات السبع الماضية أنّ أوضاع البلاد لم تتحسّن بل بالعكس ازدادات سوءا خاصة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي برغم ما يزيد عن تداول سبع حكومات مقاليد الحكم والسلطة التنفيذية العليا للدولة. من المرجّح الآن أنّ شعار الاستقرار الحكومي، على وجاهته، يتجاوز في آفاقه والمأمول منه الراهن الاقتصادي والاجتماعي وحال أجهزة الدولة، الى ما هو أبعد أي اعادة تشكيل المشهد برمّته في اتجاه التخلي عن وضع قديم متهالك وبناء شيء جديد مُغاير، بل ربّما إلى أبعد من ذلك بكثير وتحديدا رسم ملامح مرحلة ما بعد الباجي قائد السبسي وحسم المعركة الانتخابيّة الكبرى المنتظرة بعد سنة من الآن. حاجة بلادنا الى مشهد سياسي جديد، كانت أمرا ملحا ولازما على مدار السنوات الفارطة، فلقد أفضت رهانات ما بعد التأسيسي وما رافقها من أزمات سياسيّة خانقة إلى انتخابات عامة، تشريعيّة ورئاسية سنة 2014 في أجواء مشحونة متميّزة بكثرة الإكراهات والتحالفات الانتهازيّة والوعود الكاذبة والتصويت المفيد الزائف الذي أوقع البلاد في مطب خطير ومنعها من الوصول الى تعبير صادق وموضوعي عن أحجام الأحزاب والقوى السياسيّة وموازين القوى الحقيقي. من الفرض إلى الاختيار هل يُمكن القول اليوم أنّ تجربة التوافق والشراكة بين النهضة والنداء كانت مفروضة نتيجة الحصاد الانتخابي لسنة 2014؟، وقبلها ألم تكن تجربة الترويكا محكومة أيضا بالكثير من الإكراهات؟ نعم، كان هامش الاختيار ضئيلا في المرحلتين تقريبا، واحتكمت العلاقة إلى قاعدة تنازلات دائمة من النهضة وقبولها بالأدنى، وبعيدا عن ما رشح من هنات تجربة الترويكا، فمنذ فترة كنّا نسمع مطالب من قيادات من النهضة بضرورة تعديل الكفة وتحقيق قدر من النديّة مع النداء وتزايد منسوب هذه المطالب بعد الانتخابات البلدية، «نريد علاقة متساوية تعطي النهضة ما يُعادل وزنها الانتخابي، الى متى نبقى تحت ضغط واشتراطات الباجي وحزبه؟»، وتدعّمت هذه المطالَب وارتفع منسوب مشروعيتها بعد الهجمات العنيفة التي تلقّتها النهضة من قيادات ندائية، وعلى رأسها المدير التنفيذي، عشية الانتخابات البلدية (فيديو شحن ضد النهضة للسبسي الابن) وبعد الإعلان عن نتائجها. تلك الهجمات كانت مفاجئة للمتابعين وضربت في عمق الاطروحة النهضويّة المدافعة بشدة عن سياسة التوافق: هل شعُر النداء حينها بحالة من الضيق وأحسّ بضعفه وحجم ما بلغهُ من عجز عن مجاراة شريك يراهُ يتقدّم مسرعا للصدارة؟ كان من الغريب أن يستعيد الخطاب الندائي ألفاظ التحذير من النهضة بل ومرّات كيل اتهامات لها، ولكنّ السياق حينها وما تبعه من تطورات أكّدت ما يُشبه الاستراتيجيا العدائيّة تجاه النهضة والرغبة في حشرها في الزاوية عبر استدعاء الاستقطاب الأيديولوجي والذي تجسّد على وجه الخصوص في إقدام رئيس الجمهوريّة الشرفي للنداء خطوة متقدمة في مشروع المساواة في الإرث، فتكاد تُجمعُ كل القراءات على أنّ المشروع، في سياقه السياسي والتاريخي، موجَّه أساسا للتضييق على النهضة داخليا مع أنصارها، إذا قبلتهُ، وخارجيا مع الأطراف الدولية المطالبة بالمساواة، في حال رفضتهُ. وكان طلب تغيير رئيس الحكومة القطرة التي أفاضت الكأس وصعّدت الى السطح المأزق الذي وقعت فيه علاقة الشيخين والحزبين، وبدأ منذ نهاية ماي الفارط ما يُمكن توصيفه بأنّه لي أذرع بين الطرفين، تجسّد في رفض حركة النهضة تقديم المزيد من التنازلات وتمسّك السبسي والنداء بالإطاحة برئيس الحكومة. وفي غضون ذلك ذهب المشهد الحكومي على وجه الخصوص مذاهب سَيِّئَة جدا بلغت مداها في ما نراه اليوم من غرائبيّة في ما يجري بين رأسي السلطة التنفيذيّة من جهة وبين رئيس الحكومة وحزبه الأغلبي، لذا لم تتحرّك عجلة الإصلاحات وتعثّر مسار انقاذ الاقتصاد الوطني واضطربت مؤسّسات الدولة وأجهزتها وفقدت الكثير من فاعليّتها ونجاعتها هل توفّرت الآن شروط الاعلان عن صورة المشهد السياسي والحزبي الجديد بعد حالة الوهن التي أصبح عليها التوافق الوطني والصعوبات التي يواجهها مسار وثيقة قرطاج 2 وأيضا حالة الارتباك الذي أضحى عليها الشريك الأساسي للنهضة إلى حدّ اللحظة أي نداء تونس، المُقبل على تحوّلات دراماتيكيّة عميقة، قد تفقدهُ زمام التأثير في السلطتين التنفيذية والتشريعية، بل ربّما قد تقذفُ به الى صفوف المعارضة؟ وأيضا مع تواصل المحاذير المتعلقة بما بقي من استحقاقات قانونيّة ودستوريّة وحاجة البلاد الى عودة التفاؤل والامل وتنشيط مناحي الحياة المختلفة وإشعار المواطنين بإمكان تحقّق التنمية والتشغيل وتحسّن ظروف العيش قبل انتخابات أكتوبر 2019. قُرْب إزاحة الستار يبدو الآن، أنّ إزاحة الستار عن ملامح المشهد الجديد ومكوّناته لن تطول كثيرا، ويبدو أيضا أنّ حركة النهضة باتت على وشك صناعة حليف جديد واختيار شريك لها، فقد وفَّرت أساسا لرئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد أرضيّة مُثلى وهي تسندهُ بهامش تحرّك واسع للإفصاح علنا عن مشروعه السياسي بآفاق واعدة وفي سياق تحالف مدروس ينهضُ بأعباء الراهن الصعبة ويُسهم في حلحلة جزء هام من الأزمة السياسيّة التي طال أمدُها أكثر من اللزوم، تحالفٌ يقوم على النديّة وتوازن كفّتيه والتوافق الإرادي والطوعي لا الإكراه والفرض والتنازلات التي لا حدّ لها من طرف واحد. هل سيُعلن الشاهد قريبا تموقعه الحزبي أساسا في الاختيار بين عودة الود مع حزبه نداء تونس وافتكاك زمام القيادة والمبادرة داخلهُ أو استثمار الرصيد الإيجابي والأفق المفتوح الذي تمثّله حاليا كتلة الإئتلاف الوطني في مجلس النواب والعلاقة الجيّدة مع الاتحاد الوطني الحر ولفيف واسع من المنتمين للنداء أو من خارجه من الوجوه السياسيّة والشخصيات الوطنيّة، ناهيك عن السند الكبير الذي منحتهُ إيّاه حركة النهضة؟ لن يطول الأمر أكثر ممّا طال، وربّما نهاية هذا الشهر مثلما تضغط لذلك قوى فاعلة ووازنة في كتلة الإئتلاف الوطني أو ربّما اليوم أو غدا اذا ما أقرّت الهيئة السياسيّة لنداء تونس سحب الصفة الحزبيّة عن رئيس الحكومة، فكلّ المؤشرات باتت تدفع الشاهد وتؤكّد عليه توضيح مشروعه الحزبي والسياسي، فالأحداث ضاغطة وربّما تجري الرياح بما لا يشتهي ربَّان السفينة. اشتدّت الأزمة السياسيّة كثيرا، ولكن بوادر الانفراج قريبة جدا وربّما أقرب ممّا قد يعتقده كثيرون، هذا إذا احسنت الأطراف الماسكة حاليا بعصب الحياة السياسيّة جيّدا طريقة التعاطي مع آخر القطع المتبقيّة على رقعة الشطرنج الحالية وقدَّمت على الركح بشكل جيّد مشهد نهاية المسرحيّة القديمة الّتي ملّها الجمهور وبدء عرض مشوّق جديد.