تونس الشروق: مع مستجدات الأسبوع المنقضي تكاد صورة المشهد السياسي تبدو واضحة وجليّة في حرب التموقع والاصطفاف، فقد اتّضحت الآن وبشكل كبير معالم أغلبيّة برلمانية مريحة ستكون قادرة على إدارة جزء كبير من استحقاقات المرحلة القادمة خاصة على مستوى التشكيل الحكومي الجديد والتشريعات وميزانية الدولة وقانون المالية للسنة المقبلة، كما أنّ الخلاف داخل نداء تونس في طريقه الى الحسم في اتجاه تقسيم المقسّم، وهو ما سيفتحُ الطريق لا محالة أمام بروز مكوّن حزبي جديد نواته كتلة الإئتلاف الوطني وحزب الاتحاد الوطني الحر وزعيمه المفترض يوسف الشاهد رئيس الحكومة. مشهد جديد وتساؤلات إرهاصات المشهد الجديد التي باتت تظهر على السطح تُثير الكثير من الأسئلة: هل أصابت النخبة في دفعها نحو هذا التشكيل السياسي الجديد؟ هل سيضمنُ هذا الخيار استقرار الوضع العام في البلاد ويُساهم في حلحلة الأزمة السياسيّة المستمرة منذ ما يزيد على ستّة أشهر في ظل تواصل وضع اقتصادي واجتماعي صعب ومعقّد؟ والأهم من كلّ هذه الأسئلة التي تتوارد حاليا على أذهان المتابعين وعدد واسع من الفاعلين السياسيّين والاجتماعيّين، هو: هل ستكون هذه التوليفة السياسية والحزبيّة الجديدة قادرة على استكمال البناء الديمقراطي مؤسساتيّا بتركيز المحكمة الدستوريّة وبقية الهيئات المستقلّة وتأمين مصداقية هيئة الانتخابات، ودستوريا في المحافظة على دوريّة واستمراريّة مساري الانتخابات والتداول السلمي على السلطة ومزيد تعزيز هامش الحريات وحقوق الإنسان وتمتين مرتكزات التعدّديّة الحزبيّة والسياسيّة؟ قد يكون من السابق لأوانه استشراف أجوبة ثابتة لكلّ هذه الاستفسارات، بل ربّما سنكون أمام رهانات أخرى وربّما مفاجآت من هذا الطرف أو ذاك قد تعمّق واقع الحيرة وتزيد في ضبابيّة الأفق السياسي في البلاد، ذلك أنّ المشهد الجديد المفترض بُني بمنطق المغالبة، فالآن هناك منتصرون منتشون فرحا بما حققوه ومن نجاح مخططهم في الهيمنة على السلطتين التنفيذيّة في القصبة والسلطة التشريعية في باردو، ولكن هناك ايضا منهزمون منكسرون لا يتوقّع أي متابع أن يرموا مناديل الهزيمة والخيبة. لا تزال هناك انتظارات أخرى، خاصة في علاقة رأسي السلطة التنفيذيّة ومنسوب الجاذبية السياسية وحجم الحاضنة الشعبيّة الذين سيحظى بهما المشروع الجديد الناهض على أنقاض نداء تونس بقيادة الشاهد، وأيضا توجهات حركة النهضة المستقبليّة، الفاعل الحزبي والسياسي الأهم اليوم على الساحة، في ما يتعلّق بصيغ تفعيل سياسة التوافق والحوار التي تؤكّد الحركة باستمرار تمسّكها بها وإقرارها بأنّه لا إنهاء لأزمات البلاد دون حوار بين الجميع. النخبة وداء الصراع على السلطة للأسف، الواضح الآن أنّ أجندة النخبة السياسيّة المنقسمة والمضاربة في اتجاهها لإضاعة فرصة استكمال البناء الديمقراطي بشكل سلس وسليم خال من كلّ المحاذير، هذا الحلم الذي ضحّت من أجله أجيال متعاقبة وقدَّمت في سبيله تضحيات جساما. عرفت بلادنا منذ الاستقلال، وحتى قبله، صراع زعامات ولاحقا صراعا على السلطة، صراعات انتهت في غالبيّتها الى اشكال من الإقصاء والاستبعاد (محمد مزالي، احمد بن صالح…) بلغت درجة الخطة الاستئصالية الممنهجة (مواجهة السلطة لحركة النهضة في بداية تسعينيات القرن الماضي وما تبعها) وتزييف ارادة الشعب (انتخابات سنتي 1981 و1989) والانفرادية في الحكم وتقرير خيارات البلاد الكبرى ووصلت هذه الصراعات حدّ الصدامات الدموية (الخميس الأسود سنة 1978 وأحداث الخبز سنة 1984) والاغتيالات (صالح بن يوسف نموذجا). هل نَحْنُ اليوم، أمام صورة جديدة مستنسخة من ذلك الماضي البغيض، أي هل هي صورة قد تكون بشكل أو بآخر تجسيدا لمثل تلك الصراعات العنيفة الاقصائية والدامية على السلطة؟ المتتبّع للمسارات التي أوصلت الحياة الوطنيّة الى وضعها الراهن من الالتباس والمخاوف، يلحظ حجم ما شهدته الفترة السابقة من مغالطات ومحاولات لتوجيه الرأي العام وممارسات سياسيّة بعيدة عن الأعراف الديمقراطيّة، وتجسّد وضعية رئيس الحكومة وعلاقته بحزبه وجها غرائبيا غير معهود بما فيه أصناف من المناكفة والمخاتلة والتلاعب بالضوابط والصلاحيات الدستوريّة، بدءا من المحاولات المتكرّرة لتطويع رئيس الحكومة لخدمة مصالح وتقديم خدمات وتنفيذ أجندات ضيّقة وصولا الى استثمار الموقع في السلطة لفرض واقع جديد، فمن رغبة الحزب في الانقلاب على ممثله في رأس السلطة التنفيذية في القصبة الى انقلاب مضاد واتجاه نحو افتكاك الحزب عنوة باستغلال ما توفّره السلطة من وجاهة ونفوذ وقدرة على الاستقطاب أو بناء بديل على أنقاضه أو تقسيمه في أدنى الحالات وإضعافه. فالوضع ليس سليما بالمرّة، بما بلغهُ من مناكفات وما يحمله من مفاجآت منتظرة في الأسابيع القادمة، فقرار تجميد رئيس الحكومة من النشاط في حزبه ومواصلة المطالبة بإقالته لا يبشّران بقرب الخروج من مطبّ الانتكاسة الديمقراطية الراهنة التي تسبّبت فيها الأزمة داخل الحزب الأغلبي خلال آخر انتخابات عامة. وكثيرون يتساءلون حول صلة هذا الذي يجري من عراك وصراع ومسار الانتقال الديمقراطي الذي تعيشه البلاد، حتّى أنّ البعض لمّح إلى مخاطر محدقة قد تلحق التجربة التونسيّة الناشئة بل انّ العميد شوقي الطبيب، وهو متابع وراصد جيّد للوضع السياسي والحقوقي التونسي منذ عقود، صرّح بأنّ الديمقراطية في تونس باتت مهدّدة دون أن يستبعد فرضية عودة الاستبداد مرّة واحدة. اعوجاج ومرحلة انتقالية ثانية هناك حالة من الاعوجاج في المسار الديمقراطي، تتطلّب المعالجة العاجلة، فانهيار منظومة 2014، نتيجة الوضعية التي أصبح عليها نداء تونس، لا تمنح الحق لأي كان لرسم ملامح مشهد جديد دون العودة الى الناخب التونسي الذي يبقى الجهة الوحيدة المخولة دستوريا لتقييم الاعوجاج وتعديل التوجهات ومنح المشروعية الشعبيّة والشرعية القانونيّة للقوى التي عليها أن تنهض بحكم البلاد. قد يكون مطلب الانتخابات السابقة لأوانها مرهق وصعب، فالموعد الانتخابي الدستوري الدوري على الأبواب ولم يعد يفصلنا عنه سوى سنة وحيدة، وهذا ما يفترضُ ضرورة ايجاد مخرج توافقي لأزمة الحكم الحالية بتثبيت حكومة توافقيّة محايدة ومستقلة تتفرّغ للإنقاذ وتنفيذ الإصلاحات وتأمين المناخ الملائم لانتخابات العام المقبل بروح المرحلة الانتقالية الثانية، نأيا بالدولة عن صراعات السلطة العنيفة والانقسامات وتوفيرا لظروف استكمال البناء الديمقراطي الذي ما يزال يحتاجُ الى لبنات أخرى هامّة ومكتسباته الراهنة مهدّدة بحروب التموقع واستثمار مزايا السلطة للإمعان في المغالطة والتزيّد في هذا الاتجاه أو ذاك وتشويه «الحلم الديمقراطي» وتشويش الصورة الناصعة التي حازتها التجربة الانتقالية التوافقيّة الرائدة لتونس.