تُثبت مستجدات الحياة الوطنية يوما بعد آخر ما باتت تكتسيه الانتخابات العامة المقرّرة لشهر أكتوبر من العام المقبل من أهميّة بالغة جدّا بالنسبة لكلّ الفاعلين، الى الدرجة التي أصبحت فيها التحرّكات والتصريحات والمواقف السياسيّة والحزبيّة والإجتماعيّة والنقابيّة وحتى القرارات الرسميّة للدولة تُقرأُ في علاقة بذلك الموعد. وليس خافيا اليوم تصاعد الجدل حول موعد الانتخابات وسط حالة من التشكيك في القدرة على المحافظة على التاريخ المحدّد دستوريا في صورة تواصل الأزمة السياسيّة وعدم استكمال جميع مستلزمات شفافيّة العملية الانتخابيّة وسلامتها واساسا سدّ الشغور في الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات ومنع كلّ صنوف الاختراقات والتوجيه أو الضغط عليها خاصة من قبل من يبدو أنّه غير مستعد ويفتقد لجاهزيّة المنافسة ويتخوّف من الفشل. مصيريّة الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة تتمثّل أساسا في وضع تونس رسميا على سكّة الديمقراطية الحقيقيّة والتداول السلمي على السلطة مثلما فرض ذلك دستور الثورة، فلأوّل مرّة منذ الاستقلال ستشهد بلادنا انتقالا سلميا للسلطة بِنَاء على مسار انتخابي شعبي نزيه وشفّاف تنفيذا لمقتضيات النظام السياسي الجديد، كما أنّها انتخابات مصيريّة في اتجاه وضع نهاية لمعضلة الجدل حول الوصول إلى السلطة إذ رغم الخطوات السياسية المهمة التي قطعتها بلادنا ورغم المواعيد الانتخابية السابقة وخاصة سنتي 2011 و2014 والانتخابات البلدية الاخيرة، والتي كرّست جميعها علوية صندوق الاقتراع والارادة الشعبية في الاختيار، رغم ذلك، وسنة وحيدة قبل الانتخابات القادمة ما تزال خطابات الإقصاء والكراهيّة والرؤى الانقلابيّة أو الراغبة في التمسّك بالسلطة خارج الضوابط الدستوريّة وسياقات احترام ارادة الناخبين تتراءى بين الفينة والأخرى في مشاهد غريبة تنمّ عن حنين لعهود الدكتاتورية والاستبداد والحزب الواحد واستخفاف مفضوح بالشعب وبنضالية أجيال عديدة من التونسيّين والتونسيّات قدموا تضحيات غالية من سجون ومناف واغتيالات سياسية وتهجير او اختفاء قسري من أجل تحقيق الحريّة السياسية والفكرية والحلم الديمقراطي. إنّ ما تكتسيه انتخابات 2019 من أهميّة لاستكمال الجزء الأهم من الاستحقاق السياسي للثورة والدخول الى عالم الديمقراطيات المستقرّة والثابتة، لا يجب في كلّ الحالات أن يحجب المسؤولية التاريخية والحضارية للنخبة والفاعلين السياسيّين والحزبيين والاجتماعيين في تجنيب المسار الانتخابي الجديد كلّ عوامل الاضطراب أو التوتير والابتعاد به نهائيا عن الصراعات الراهنة التي باتت تقضمُ للأسف من جاذبية الديمقراطية والتعددية لدى قطاعات واسعة من الشعب وخاصة من الفئات الشبابيّة. وتتّضحُ اليوم خطورة استمراريّة فلسفة الربط الآلي بين جميع مناحي النشاط الرسمي والحزبي وانتخابات 2019 وقراءة التحوّلات بمنظور المسار الانتخابي الجديد، وهي فلسفة أصبحت تقود جزءا كبيرا من التونسيّين نتيجة السلوك العبثي للكثير من الفاعلين السياسيّين الرسميين والحزبيين، فقد اصبح كلّ شيء، حتى الجميل والطيب والحسن منه على غرار حملة الأيادي النظيفة، محل تشكيك وتناقص تبعا لذلك منسوب الثقة في العمل الحكومي والفعل السياسي بصفة عامة، وهذا ما يجب أن تعيه النخبة السياسية في الحكم والمعارضة بهدف تأمين المسار الانتخابي القادم من كل الانحرافات والانزلاقات الخطيرة واعادة الثقة للناخبين في العملية السياسية الديمقراطيّة وفتحها على آفاقها الطبيعية في المشاركة الواسعة والانتخاب الحر والنزيه بما يسمحُ بتجاوز سلبيات الراهن السياسي وبما يُسهم في ايجاد مناخ سليم للمنافسة وتصعيد الكفاءات القادرة على إدارة شؤون البلاد خلال السنوات الخمس القادمة.