إن جمال القص يكون منطلقه من الواقع والمؤلف الناجح هو الذي يحاول التعريف بالشخصيات التي يختارها بعد ان يكون قد تعرف عليهم وعلم بظروفهم الصعبة وتتطلع على معاناتهم اليومية . ومن بديهيات السرد وجود هذه الشخصيات . فمنها شخصيات رئيسية وهي التي تلعب الأدوار الأساسية في الرواية وتعمل على دفع الأحداث وتغيّر اتجاهها. ومنها ثانوية وذات مساحة محدودة وقد ينحصر دورها في مساعدة الشخصيات الرئيسية على أداء أدوارهم وتحقيق أهدافهم. وفي الغالب تختفي هذه الشخصيات سريعًا ليظهر غيرها. ولا شك أن التفاعل بين أنواع هذه الشخصيات سوف يخلق أجواء متباينة ويصعد ويهبط بالأحداث مما يؤدي إلى إثراء العمل السردي وتعدّد جوانبه. وفي تقديمها لروايتها الجديدة تقول الشاعرة «شادية القاسمي» الحائزة على جائزة الكومار الذهبي عن روايتها «المصب» : في «رايات سود» تتناثر الأحداث زمنيا وتنقل أحداثا واقعية وعلى هذا الأساس كان يجب أن أتصف بالدقة في المرور من الأحداث الطلابية إلى أحداث سليمان وحرق مقام السيدة المنوبية إلى الثورة التونسية... أنا أنقل صورة الجهادي الذي ضغطت عليه الظروف المادية والتهميش وحادثة الطفولة كي أطرح الأسباب دون أحكام مطلقة...) . نصيرة السالمي ... الناجي السالمي... حليمة السعداوي... شامة الرزقي ... محمد الخياري ... سكينة الحاج نصر ... الناصر البحري ... عمر الخليفي ... شريفة الخياري ... زينة بن سليمان ... رجاء عطية ... هالة السالمي ... سليم البحري ... نادر الخليفي ... ومجموعة أخرى من الشخصيات تتشابك في علاقات إنسانية متشعبة بطبيعتها. تفترق وتلتقي... بعضها يتآزر ويأخذ بيد بعض... وبعضها يتشاحن حد القتل أحيانا. وهي كلها تؤثث « رايات سود « . و أول هذه الشخصيات حسب نسبة تواجدها في الرواية نصيرة بنت زبيدة السالمي زوجة الناجي السالمي وأم حمدي المعاق وصابر الجهادي واحدة مع مجموعة من النساء رحلن من أعماق الريف بحثا عن حياة أفضل في المدينة وسرعان ما يكتشفن أن العاصمة تلتهمهن التهاما وتحول حياتهن الى جحيم ... ثم يأتي في المرتبة الثانية الناجي السالمي زوج نصيرة وأب الطفل المعاق حمدي الذي يكرهه كرها مميتا حتى انه يتمنى له الموت في كل حين وكم من مرة حاول قتله يبديه غير أن نصيرة دائما موجودة لنجدة ابنها . هذا الناجي يكون مع صديقيه الفاهم القرفي وسلام بن عبدالله في الدشرة مجموعة سوء تشترك في شرب الخمرة وفي السرقات وفي القتل أيضا ... هذه المجموعة تتهم بقتل بنت العيفة وهي فتاة ترعى الأغنام ويدخل الجميع السجن . بعد مدة يخرج الناجي ليجد نفسه في صدام مع زوجته وأبنائه وخاصة حمدي الذي ضريه بحجر على رأسه كاد يقتله . حتى أننا نجده يقول : « أنا الناجي السالمي ابن الحاج ووحيد دادة حنيفة بطولي الفارع وعضلاتي المفتولة يهينني هذا الطفل الأبله ...» كما نجد في نفس المرتبة حليمة السعداوي زوجة عمر الخليفي التي أحرقت بيت زوجها كما أحرقت قلبه وغابت بالأبناء وتركته للضياع بعد أن هوى عليها بعصا كان يتابع بها قطيعه وضربها بدون رحمة أو شفقة أمام أولادها ... فرّت حليمة الى المدينة مع أولادها لتبدأ حياة جديدة ... و نجد أيضا شامة الرزقي ابنة الراقصة زينة بنت سليمان وابنة جلال الرزقي «درباكجي» فرقة أولاد البكري الذي دمرته الخمرة والسجائر وأقعده حادث مرور على كرسيّ متحرك .و كم ذاقت الويلات من أمها الراقصة والتي كرهتها لأنها كانت ثمرة حرام . و نجد محمد الخياري وهو سجين سياسي كان طالبا في كلية الحقوق والعلوم السياسية وزجّ به في السجن حتى صار في هذا المكان لا يميز بين الليل والنهار وألفت عيناه السواد الحالك كما ألفت عظام جسده هراواتهم . وبعد أن خرج من السجن كانت في انتظاره رجاء عطية صاحبة أعمال التي اقترحت عليه فكرة الزواج وهي في عمر أمه في اطار صفقة من صفقاتها الكثيرة وكان لها ذلك رغم رفض عائلته لهذه الزيجة . في رواية « رايات سود « نلاحظ أن الكاتبة سردت الأحداث سردا معتمدا على أسلوب أكثر من صوت في سرد ذاتي بضمير المتكلم...و جعلت كل الشخصيات تتحدث عن نفسها وتعبر عن رؤية واحدة للأحداث... معتمدة في ذلك سردا يغلب عليه أسلوب التذكر والتتابع في كل الإعترافات ... مع الإشارة بأنها وزعت هذه الاعترافات على قصص قصيرة لا تتعدى صفحتين أو ثلاثة صفحات …و كل قصة تبدأ بتاريخ يحمل اليوم والشهر والسنة وكأني بها تؤرخ لحدث هام في حياة هذه الشخصيات والأكيد أن جميع الشخصيات تحملت مهام السرد فجاءت كل القصص سردا ووصفا لحياتها اليومية ومأساتها بلا أقنعة ولا خيالات ... و الشاعرة شادية القاسمي أمعنت بذكاء في كتابة واقعية سوداء بالمعنى المتعارف حتى أنها غاصت في أعماق بعض الفئات الاجتماعية التي فرت من تعاسة الريف الى سعادة وهمية في المدينة .وحاولت بصدق أن تتبنى قضاياها ومشاغلها وتبرز كل تناقضاتها... وقد تمكنت باقتدار من إفساح المجال لكل الشخصيات المختلفة في مبادئها وعواطفها وأشكالها وعاداتها والتي اختارتها ومكنتها من التكلم والتحدث عن تجاربهم الإنسانية ومعاناتهم اليومية مع المحافظة على الإتجاه السردي للرواية ... و بأسلوبها الشيق جعلت القارئ يهتم بهذه الشخصيات ويتابعها باللهفة القصوى حتى يتمكن من معرفة كل أسرارها وخفاياها. والأكيد أن هذا التعلق من قبل القارئ بهذه الشخصيات نابع من أن الكاتب في سرده للأحداث يتغلغل في حياة شخوصه تغلغلاً لا تضاهيه معرفته العادية بالناس الذين يعرفهم ويعيشون حوله ... في هذه الرواية أكثر من إشارة تدل على أن شادية القاسمي قالت كل شيء عن شخصياتها... فهي قدمت الشخصيات دفعة واحدة. ولم تهمل أية جزئية مهما كانت صغيرة. رغم عدد الشخصيات الكبير والذي وصل الى خمس وعشرين شخصية بالإسم والمرجع وقد كانت حاضرة وفاعلة في كل مراحل الرواية ... نلاحظ أيضا في نهاية كل قصة جملة مثيرة تزدحم حلكة وسوادا ولعلها جاءت متعمدة من الكاتبة وأذكر بعضها على سبيل الذكر لا الحصر : (... ابابيل سود تحلق في دماغي احاول أن اذبّها ولا أستطيع ...ص 10 ) (... كأن غمامات سود تلف رأسها وتنعق كالغربان ... ص 16 ) (... تحط في الحوش بومة سوداء تنتظر الظلام كي تبدأ في النعيق ... ص 23 ) (... مؤخرات الملائكة صارت مرتعا للمرضى ايها السواد النامي في الأرواح ...ص 100) (... يا خليفي يا مجنون ... ألهث ككلب عطشان وأسقط يبتلعني سواد أحمق...ص107) (... سواد حقيقي لف المكان ...ص 153) (... تحالفتْ مع السواد تزرعه كفلاح قدير وتطعمه كل مرة بشكل جديد ...ص 180) (... كان يغمر شق قلبي غيم أسود ...ص 201) (... دخلت نصيرة في حدادها ونث السواد دخانه في قلبها وبيتها ولا أدري كم سيستمرّ ...ص 226) (...فستانك الأبيض يا شامة يملأ البيت ويسعدني فأرمي كل السواد الذي غمر قلبك للماضي وهلمّي للحب ...ص 334) هذه الجمل وغيرها كثير ختمت بها الكاتبة قصص شخصياتها المختلفة وهي في اعتقادي تختزل هذه الرايات السود التي وشحت عنوان الرواية وهي في الحقيقة اشارات صارخة بل صرخات موجعة لسكان هذه الجهات المهمشة والمحرومة ...