أجدادنا ألهاهم التكاثر والتفاخر حتّى زاروا المقابر محتسبين الأموات بعد عدّ الأحياء. ونحن شغلتنا المشاكل حتّى نسينا الأجداد والآباء، أقصد الأبطال والشهداء وأعلامنا من الرجال والنساء. وقد نسينا الأحياء أيضا من نخبنا حتّى لم نعد متأكّدين إن كان أحدهم - بعد انقطاع الأخبار وطول الغياب - في عداد الراحلين أو في قائمة المنتظرين. وماذا نستطيع فعله لأولئك أكثر من أربعينيّة نتتابع على منبرها أو ذكرى سنويّة إن استطعنا سبيلا إليها ؟ أليس من حقّهم علينا أن نذكرهم ونتذكّرهم منوّهين بجهودهم وتضحيّاتهم ومستخلصين العبر من نضالهم ومهتدين بأفكارهم وخبراتهم؟ بالأمس فقط، كمثال، استحضرت مع جليسي اسما كثير الكتابة، كثير الصمت، أفنى العمر في التعليم، وأجرى القلم في التأليف، حتّى تخصّص في رواية تاريخنا برصيد ناهز روايات زيدان. ولا أحد منّا يؤكّد إن كان صاحبنا، الذي نسيناه سنين، حيّا يرزق أو مفارقا يرحم. وكلانا مقصّر في حقّه بقدر تقصير غيرنا في حقّ غيره. أعترف بالغفلة وألوم نفسي على قطع الزيارة مع قرب السكنى مثلما ألوم الإذاعة والتلفزة والصحافة ما لم تكن معذورة. تذكرون خالد التلاتلي... كان سبّاقا بالصوت والصورة إلى المسنّين من المؤلّفين كالطاهر الخميري وعبد العزيز العروي والبشير خريّف. سجّل معهم حوارات هي اليوم الوثائق الوحيدة عنهم لمن لا يعرفهم مع من يعرفهم. فهل فكّر الإعلام - شخصا أو مؤسّسة - في مثل ذلك التوثيق قبل أن يغادرنا آخرون تبعا للّغماني واليعلاوي والساحلي وابن الحاج يحيى والصيد والكوني والشملي وبكّار ونعمان وماجد وعمران وآخرون، منهم المهندس والطبيب والقاضي، ومنهم المؤرّخ والأديب والناقد، وكلّ من هو على عصره شاهد ؟ كانت لعثمان الكعّاك مسامرات في التراث الشعبي، وللفاضل بن عاشور محاضرات في الفقه الإسلامي، وللمنجي الشملي برامج في الثقافة التونسيّة، ولفرحات الدشراوي سلسلة تاريخيّة في الرسالة المحمّديّة. وكانت لرشاد الحمزاوي استضافات، وبعده لفرج شوشان أخريات، إلى غير ذلك من التسجيلات. أفلا يتذكّرها المسؤولون دعما للإنتاج الذي تراجع وترقيّة للمستوى - من اللغة والمحتوى - الذي تدنّى ؟ قليل من ذلك أنجزه مشكورا رؤوف يعيش، وكثير منه ينتظر التذكير. وحقّ الأحياء علينا - بعد أمواتنا - كبير.