هل يمكن تصور مهرجان أيّام قرطاج السينمائية خارج محيط شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة ، اي بعيدا عن الكوليزي والمسرح البلدي ونهج ابن خلدون حيث دار الثقافة ابن خلدون وقاعتي المونديال وABC وغيرها من الفضاءات الثقافية والترفيهية التي شهدت نشأة هذه التظاهرة منذ ستينيات القرن الماضي ؟ سؤال قد يتبادر الى ذهن كل من عايش ، ولو قليلا من دورات هذا المهرجان الذي شهد ميلاد العديد من الاسماء السينمائية العربية والأفريقية، اضافة الى الأجواء الاحتفالية والصداقات الفنية التي تكونت بمرور الدورات وتعاقبها مفرزة احلاما ومشاريع ثقافية وفنية كثيرة فيها ما تحقق وفيها ما ظل حلما . لم تعلن ادارة الدورة 29 لأيام قرطاج السينمائية بعد عن مكان إقامة المهرجان وأساسا مكان حفلي الافتتاح والاختتام وحتى بقية الفعاليات كالندوات وعروض المسابقات الرسمية، ولكن يبدو واضحا من خلال اختيارات وزارة الثقافة، ان هناك توجه لإقامة المهرجان أو على الأقل الجانب الأكبر من فعالياته في مدينة الثقافة بشارع محمد الخامس ، والتي ما فتئت منذ افتتاحها تفتك كل التظاهرات الثقافية والفنية الكبرى على غرار مهرجان الاغنية أو ايّام قرطاج الموسيقية ومهرجان الرقص «تونس عاصمة الرقص» الذي تحول الى ايّام قرطاج الكوريغرافية ومهرجان السينما التونسية … وحتى معرض تونس الدولي للكتاب الذي لولا تشبث البعض بقصر المعارض بالكرم لآل الى مدينة الثقافة ! لا يمكن اخفاء حالة البرود التي طبعت تقريبا أغلب التظاهرات التي أقيمت في مدينة الثقافة واخرها ايّام قرطاج الموسيقية ، اضافة الى الحضور المحتشم للجمهور واقتصاره او احتكاره لدى فئة اجتماعية وثقافية واحدة توجه لها الدعوات دون غيرها ، وهو ما جعل العديد من الفنانين والمثقفين ، والناشطين في الحقل الثقافي عموما يحتجون وينددون بتغيبهم عن تظاهرات وأنشطة مدينة الثقافة . اما الجمهور العادي او الجمهور الواسع الذي كثيرا ما ساهم في شعبية العديد من التظاهرات الكبرى على غرار ايّام قرطاج السينمائية وايّام قرطاج المسرحية فهو لا يعرف الى اليوم ما اذا كان مسموح له الدخول الى مدينة الثقافة ، وهناك ربما من المواطنين ، من يعتقد ان الدخول الى المدينة بمقابل مالي كالدخول الى المتاحف ودور العرض… لم تتمكن مدينة الثقافة رغم مرور فترة طويلة على افتتاحها من تكوين جمهور يتردد عليها بشكل منتظم ويتابع أنشطتها بصفة دورية . ويعود ذلك الى سياسة او اختيارات الساهرين على المدينة وأساسا وزارة الثقافة ، التي ربما تسعى الى احتكارها لفائدة نخبة معينة تحددها حسب مقاييس خاصة . أضف الى ذلك غياب ابسط وسائل الترفيه التي يمكن ان ينشغل بها روادالمدينة في انتظار انطلاق العروض والأنشطة وبعدها ، اذ لا يوجد مقهى واحد يمكن ان يستريح فيه الرواد او حتى كشك يقتنون منه حوائجهم البسيطة. وهذه الاختيارات لا يمكن في كل الحالات ان تشجع على ارتياد المدينة مهما كانت قيمة الأنشطة والعروض المقدمة فيها. ان الاضافة الوحيدة التي قدمتها مدينة الثقافة للساحة الثقافية هي في زيادة فضاء ثقافي جديد ضخم ، ولكنه بلا روح وبلا حياة ، اي بلا جمهور ، وهو ما قد يؤثر على اجواء الدورة القادمة من مهرجان ايّام قرطاج السينمائية التي ظلت الى غاية الدورة الفارطة مفتوحة للجميع بلا استثناء ميزتها بعث الحياة في وسط العاصمة وجمع مختلف الفئات الثقافية والاجتماعية حول الفن والثقافة . ولعل ما نخشاه في حالة إقامة ايّام قرطاج السينمائية داخل مدينة الثقافة هو تسرب البرود والجفاء الى المهرجان مثلما حدث مع التظاهرات الاخيرة التي أقيمت في المدينة وآخرها أيّام قرطاج الموسيقية ، اذ اتسمت غالبية هذه التظاهرات بضعف الإقبال ونفور الجمهور وهو ما جعل البعض يصف مدينة الثقافة بالمعتقل. وهناك من وصفها بالصالون . ويجمع عديد المتابعين لنشاط المدينة والحياة الثقافية عموما على ان مدينة الثقافة خنقت الثقافة وهي بصدد قتل كل التظاهرات الكبرى التي اشتهرت بها البلاد وذلك من خلال تحويل هذه المهرجانات الى محافل للنخبة لا يدخلها الا المصطفين .… وحتى لا ننسى تبقى السينما مهما كانت قيمة الأفلام والتظاهرات التي تقدم فيها ، فنا شعبيا يستقطب مختلف الفئات الاجتماعية والثقافية على حد سواء.