بهذا تحقّق الرواية السيرذاتية نوعا مخصوصا من التفاعل بين القارئ والنص، قوامه التساؤل القائم في ذهن القارئ وهو يتابع الأحداث وينشدّ إليها: هل حصل هذا في واقع الكاتبة أم في خيالها؟ وهل هي التي عاشت تجربة الحرب فعلا في مدينة بغداد؟ وهي التي مرّت بظروفها الحالكة المرعبة؟ هل شخصية «رموز» هي التي قضّت ليالي الفزع في بغداد المظلمة إلاّ من أضواء الصواريخ والقذائف، أم هي الكاتبة عواطف الزرّاد وقد أخذتها الظروف إلى بغداد إبّان الحربية العراقية الإيرانية وأنّها تنقل لنا ما أمكن من ذكرياتها مع بغداد ومع الحرب؟ هنا مدار متعة القراءة في نظرنا! وهنا مجال الإبداع في هذه الرواية. اختارت عواطف الزرّاد طريقة طريفة في «التذكّر» أو إيهامنا بالتذكّر. حوار «فايسبوكي» بين «شميم» الرجل العراقي و»رموز» المرأة التونسية. يبدأ الحوار عاديا متوقّعا ثم يقفز إلى مساحات من المفاجآت والأحداث والذّكريات والعشق. وإذا بهذه المرأة التونسية تعرف ما لا يعرف صاحبها الفايسبوكيّ العراقيّ من تفاصيل الحرب العراقية ومشاهدها وأسرارها ومخلّفاتها الذّاتية والموضوعيّة وآثارها في الإنسان والنبات والحجر. ونقلت لنا الشخصيات مشاهد مدمّرة عنيفة قويّة الأثر جعلت هذه الرواية تطاول النصوص الكبرى المكتوبة عن الحرب. فالتقينا بمشاهد تمزيق الجنود العراقيين بيد العدوّ تُعرض على شاشة التليفزيون العراقي لتبرير الحرب وخاصة تواصلها، وعاينّا مع عين الراوية لحظات الإعدام في ساحة الموت ببغداد حيث «شجرتان شاحبتان باهتتان مستسلمتان في حداد مزمن» (ص 62)، إعدام جنود هربوا من ساحة المعركة أو خيّروا الحياة على الموت: «جسد غضّ لشابّ.. يسكن بين ضلوعه قلب يهتف بالحب ويتدفّق بالحياة.. تتلقّفه إحدى الشجرتين فتلتحم به وتعانق برودتها دفأه.. فيتّحدان في تقاطع مفزع في الساحة المقفرة إلاّ من الذين جيء بهم لمتابعة المشهد علّهم يعتبرون..» (ص 64)، وعشنا مع «رموز» بعض التفاصيل من حياتها اليومية في ظلّ الحرب، خوفها على ابنتها من الموت أو من اليتم «قد أعود ولا أجدها فما مصيري بعدها؟ وقد لا أعود أنا إليها فما مصيرها بعدي؟» (ص 130)، سفرها إلى تونس لتودِعها عند عائلتها ثم تعود مباشرة إلى بغداد لتستكمل دراستها. ويعيش القارئ معها خوفها والطائرة تخرج من سماء بغداد وتعود إليها في ظرف أمني شديد الخطورة (ص 148). بل تنقل لنا الراوية لحظة فارقة بين الحياة والموت حين ضرب صاروخ إيرانيّ الجسر الذي كانت تمرّ فوقه «الفوردا» أو سيّارة النقل الجامعي في بغداد (ص 100). وقد تبدو هذه الأحداث عادية إذا كان الأمر موكولا إلى مشاهد متخيّلة أو أحداث تاريخية موضوعية مأخوذة من الوثائق النّائمة في ذاكرة التاريخ أو في متون الكتب. ولكن حين نعثر في النص وخارج النص على مجموعة من العلامات تنبّهنا نحن القرّاء إلى وجود صلة بين الشّخصية الرّاوية والكاتبة «عواطف الزرّاد» فإنّ القراءة تصبح أكثر تشويقا والتنبّه إلى الشخصيات والأحداث يكون أقوى، والعلاقة بالنص تمتلك بعدا آخر أكثر غنًى. وإذا ما كانت العلامة الأولى هي تلك العتبة الواصفة «رواية سير ذاتيّة» المذكورة على الغلاف الأوّل فإنّ العلامة الثّانية قد وردت في الفقرة الواردة بالتعريف بالكاتبة على الغلاف الثاني من الرّواية، كونها «متحصّلة على الأستاذية في الفلسفة من كلّية الآداب جامعة بغدادالعراق». ويكون التخصّص الفلسفي لعواطف الزرّاد هو العلامة الثالثة الدّالة على مدى الصلة الرابطة بين الكاتبة وشخصيتها «رموز» التي بدت في حوارها مع «شميم» شخصية متفلسفة متشبّعة بالثقافة الفلسفية ومقولات الفلاسفة، حتى لكأنّ «رموز» هي عواطف الزرّاد! ميزة هذا النّص أنّ قراءته هي نوع من الأرجحة بين التّخييلي والواقعي، أو بين الوهمي والتاريخي. وسواء كانت «رموز» قريبة من عواطف الزرّاد أو بعيدة عنها فإنّ «مينرفا في سماء بغداد» هي رواية سير ذاتية تستحقّ القراءة وإعادة القراءة.