لم تنته ولاية نابل من لملمة جراحها وحصر خسائرها وإصلاح أعطابها عندما ضربت الفيضانات الأخيرة جهات أخرى عديدة وألحقت بها أضرارا لا تقل فداحة. المتهم الأول يبقى المناخ ولكن ألا يكون للمسؤول نصيب من المسؤولية؟. تونس الشروق: 5 وفيات ومفقودان، أضرار مادية فادحة لحقت بالممتلكات الخاصة وأخرى أفدح لحقت بالعامة وتركزت في البنية التحتية. لو صحت الإشاعات حول سقوط خمسة جسور كليا وتضرر جسور أخرى جزئيا بالإضافة إلى تضرر الطرقات والمباني وحتى الملاعب المعشبة فإنها الكارثة بالنظر إلى شح الموارد وندرة التمويلات الموجهة للتنمية من جهة والإصلاحات من أخرى. هذا قضاء الله وقدره، فلكل أجل كتاب، كما إن الفيضانات تضرب في كل دول العالم دون أن تميز بين دولة متطورة وأخرى متخلفة وكل فيضان يحصد ما شاء من الضحايا ويخلف ما أراد من الأضرار المادية ولكن هل إن المسؤول التونسي بدءا من رئيس الحكومة وصولا إلى المسؤول المحلي مرورا بالوزير والمساعد والوالي والمعتمد... في منأى عن المسؤولية؟ ألا يمكن الحديث عن تقصير من هذا الجانب أو ذاك؟. تقصير في القلي لا يمكن محاسبة المسؤول عن هلاك مواطن بعد أن فقد توازنه وسقط في الماء، ولا عن هلاك آخر بعد أن غامر بقطع واد، ولا عن تضرر مسكن شيده صاحبه على شفا جرف هار، ولا حتى عن عدم مغادرته منزله وقت الشدة ليتفقد رعاه المحاصرين أو الصامدين فوق أسطح منازلهم فاليوم نرضى من المسؤول بالقليل دون الكثير… لكن هناك تقصير واضح في القليل. يبدأ التقصير من عدم التهيؤ للفيضان فالوسائل المتوفرة حاليا تمكن من التنبؤ بأحوال الطقس طيلة أسبوع، وخلال 5 أيام على سبيل الدقة، و3 أيام على السبيل المزيد من الدقة. لا نطلب من المسؤول أن يحذرنا قبل أسبوع بل قبل يوم أو على الأقل قبل ساعات وأن يكون قد أعد وسائل اتصالية طارئة تمكن المواطنين من الإلمام بالمعلومة فيعود هذا إلى منزله قبل الكارثة ويؤجل ذاك خروجه ويتخذ ذاك قراره في منع أبنائه من الالتحاق بمقاعد الدراسة قبل أن يتخذه الولاة أو مديرو المؤسسات التربوية. صفقات فاسدة؟ عندما يسقط جسر لم يمر وقت طويل على تشييده، وتظهر فوهة في ملعب معشب قبل أن يتم تدشينه، وتسقط بناية جديدة، ويتهاوى طريق بعد أن كبد إصلاحه مصاريف باهضة من مال الشعب فهذا خليط من التقصير واللامبالاة واللاوطنية وحتى التحيل والسرقة. في العادة يتوجه النقد نحو المقاول الذي أنجز الأشغال لكن مسؤولية المسؤول أكبر فهو مطالب أولا بتمكين المقاول من حقه المالي كاملا وفي الوقت المتفق عليه حتى لا يدفعه إلى السرقة، وهو مطالب بمراقبة الأشغال أثناء سيرها لملاحظة أي تهاون، ومطالب بمعاينتها بعد إتمامها وقبل أن يوقع للمقاول وثائق انتهاء الأشغال وسلامتها وصلوحيتها. وقبل هذا من المفترض إبرام عقود مع المقاولين تتضمن بنودا حول الجودة والنتائج المترتبة عن الإخلال بها. بعض المسؤولين مورطون مع المقاولين بالمحاباة وحتى باقتسام المغانم. من باب الموضوعية لا يمكننا أن نعمم التهمة على جميع المسؤولين ولا على جميع المقاولين ولكن بعض الصفقات لا تخلو من الفساد. الأمل في القضاء لن نشهد استقالات ولا إقالات ولا اعتذارات عن أي تقصير ولكن ألا يمكن للقضاء أن يتدخل لينال كل مخطئ جزاءه؟. في الدولة التي تحترم مواطنيها وتتمتع بقضاء مستقل وبعيد عن التجاذبات السياسية والإكراهات وحتى الإغراءات يمكن للنيابة العمومية أن تتدخل لتحقيق العدالة جزائيا (محاسبة كل من تثبت إدانته بالغش أو السرقة أو التواطؤ أو الحاق الأذى بالغير…) ومدنيا (غرم الضرر والتعويض للدولة عن الأموال التي تدفعها لإقامة مشروع يتهاوى عند أول اختبار). لو كان المقاول يعلم سلفا أنه لن ينجو من العقاب البدني (السجن) والمالي (التعويض) ولو كان المسؤول يعلم معه أنه سيفقد وظيفته وحريته وما جمعه من مال بمجرد اكتشاف التهاون لما تجرأ أي منهما على الغش. من باب التفاؤل لن نبني على الماضي بل على الحاضر والمستقبل فثقتنا التي تزعزعت في السياسة لا تزال كاملة في قضاء يفتح من تلقاء نفسه ملفات الفساد التي كشفت عنها الفيضانات الأخيرة فيعطي البريء حقه ويجعل من محاسبة المخطئ درسا له ولغيره. تحمل المسؤولية ما دخل رئيس الحكومة أو الوزير أو الوالي أو غيرهم في تقصير أو صفقة فاسدة شملت طريقا أو جسرا أو منشأة عمومية؟. ليس من مهام رئيس الحكومة مثلا أن يراقب كل صفقة وأن يلازم جميع الأشغال في جميع الجهات وأن يختبر بنفسه مدى صلوحية كل مشروع بعد إنجازه ولكن مسؤوليته في اختيار الوزير الجيد ومراقبة مدى حفاظه على تميزه، ومسؤولية الوزير الجيد في اختيار مساعدين ومديرين جيدين ومراقبتهم، ومسؤولية الوالي الجيد في مراقبة المعتمد الجيد ومسؤولية المعتمد الجيد في مراقبة العمدة الجيد… في صورة التجاوز أو الخطأ أو التهاون أو الإخلال تصبح العملية عكسية فيقدم المسؤول الأدنى اعتذاره عن خطئه مصحوبا باستقالته، ويقدم رئيسه المباشر استقالته مرفوقة باعتذاره عن تغافله في المراقبة والتوجيه، ويقدم رئيسه المباشر بدوره استقالته من باب تحمل المسؤولية وهكذا دواليك حتى نصل إلى رئيس الحكومة بغض النظر عن هويته وانتمائه.