لن تسقط حكومة الشاهد غدا في الهاوية، فالاتفاق الذي أبرمته مؤخرا مع اتحاد الشغل ألغى الإضراب العام وشيد لها جسرا آمنا نحو الضفة المقابلة لكن هل أن بقية الطريق آمنة؟ وهل زالت العقبات بزوال عقبة الإضراب العام؟. تونس (الشروق) «قررنا إلغاء إضراب 24 أكتوبر بعد التوصل لاتفاق مع الحكومة لزيادة عامة على ثلاث سنوات في أجور القطاع العام والتوصل لاتفاق على إصلاح المؤسسات…» هذا بعض ما أكده أمين عام اتحاد الشغل نور الدين الطبوبي أول أمس في تصريح إعلامي عقب نجاح المفاوضات بين الاتحاد والحكومة. هذا الاتفاق أتاح للاتحاد إصابة عدد من العصافير بحجر واحد، فقد أظهر لمنظوريه قوته في انتزاع مطالبهم (الزيادة في أجور القطاع العام) بقوة التهديد، وأعاد إليه هيبته عبر إجبار الحكومة على احترام بعض خطوطه الحمراء (التفويت في المؤسسات العمومية المتعثرة)، وأثبت احترامه لدوره الوطني بما أنه ضحى بالإضراب العام وجنب البلاد ويلاته رغم محدودية منافعه (الاتفاق يسمح للحكومة بمواصلة العمل رغم سعيه إلى إقالتها)... ولكن ماذا عن الجهة المقابلة فهل يمكن الحديث عن خسائر ومنافع للحكومة؟. مخاطر عديدة لا يمكن أن نتحدث عن خسائر مباشرة للحكومة بل فقط عن جملة من المخاطر. الخطر الأول يكمن في علاقتها بالجهات الأجنبية المانحة فصندوق النقد الدولي يفرض عليها التحكم في كتلة الأجور وهذا التحكم لا يتم منطقيا إلا بتجميد الزيادات وخوصصة المؤسسات العمومية المتعثرة والتي ترهق الميزانية… الخطر الثاني أنها أعطت للاتحاد مبرر إشعال فتيل الاحتجاجات إذا أخلت بالتزاماتها تجاهه في ما يتعلق خاصة بالزيادة في الأجور من جهة والتحكم في الأسعار وتحسين المقدرة الشرائية من جهة أخرى. الخطر الثالث أنها تفتح بابا يستحيل غلقه لاحقا حول إمكانية ابتزاز الحكومة والدولة عموما بالتهديد، ذلك أن أي جهة أو قطاع نقابة قد تقتدي باتحاد الشغل في التهديد بالإضراب وإجبار الحكومة على الرضوخ لمطالبها بغض النظر عن مدى وجاهتها… المخاطر كثيرة لكنها تبدو واهية إذا ما قارناها بالمغانم التي حققتها الحكومة من اتفاقها مع اتحاد الشغل: تسليم بشرعية الحكومة الاتحاد يخاصم الحكومة ويطالب باستقالتها أو إقالتها هكذا كان موقفه المعلن منها ولكنه بجلوسه إليها للتفاوض واتفاقه معها على جملة من البنود والتزامه بإلغاء الإضراب يقدم إليها بنفسه شرعية معنوية ويلغي أي مبرر له في مطالبتها بالاستقالة وينهي وصفها ب"الحكومة منتهية الصلوحية" أو ب"حكومة تصريف الأعمال". حكومة الشاهد قوية برلمانيا وسياسيا بما أنه لا أحد يقدر على جرها إلى البرلمان وضمان سحب الثقة منها. الخطر الحقيقي يأتي من الشارع، ومعلوم أن الأحزاب التي خيبت ظن المواطنين لم تعد تتحكم فيه ليبقى تحريكه بيد اتحاد الشغل ونقاباته القطاعية القوية إذا ما اجتمعت حول أمر ما. وبما أن اتحاد الشغل قد اتفق مع الحكومة وألغى إضرابه العام فإن خطر إقالتها يزول بالضرورة إلا إذا أخلت بالتزاماتها. ومع هذا فإن الحكومة توجه باتفاقها مع اتحاد الشغل جملة من الرسائل إلى جميع المعنيين بشأنها: في موقع قوة اتحاد الشغل هو أقوى طرف سياسي بما أن جميع الأحزاب منشغلة بخلافاتها الداخلية أو بتوافقاتها وتحالفاتها المستقبلية أو باستعدادها للانتخابات القادمة أو بمصيرها بعد الانتخابات...، وما توافق الحكومة مع الطرف الأقوى إلا دليل على قوتها. الرسالة الأولى توجهها الحكومة للجميع ومفادها أنها قوية بما يكفي لاتخاذ القرارات المصيرية رغم المعارضة الخارجية. والرسالة الثانية لخصومها تحديدا وفحواها أن على من يختلف معها أو يخاصمها أو يعاديها أن يأتيها طوعا أو كرها للتحاور معها والبحث عن مصالحه من خلالها. وأما الرسالة الثالثة فموجهة أساسا إلى الرأي العام ومفادها أن هناك حكومة استجابت لمطالب الاتحاد وأقنعته بإلغاء إضرابه العام حتى تجنب البلاد كارثة يستحيل تعويض أضرارها. طريق مليئة بالألغام الحكومة تجنبت إضرابا عاما كان بإمكانه أن يعصف بها وأن يدمر الاقتصاد نهائيا وقد حققت جملة من الأهداف دون خسارة، وغنمت منافع كثيرة أهمها أنها لم تسقط في الهاوية بل شيدت جسرا نحو الضفة المقابلة. لا يمكنها أن تنظر اليوم إلى الخلف لتفرح بنجاتها بل عليها أن تحدق أمامها بما أن طريقها مازالت مليئة بالألغام: من هذه الألغام ما زرعه صندوق النقد الدولي ومنها ماوضعته بعض الأحزاب ومنها ما صنع في رئاسة الجمهورية… في الحروب السياسية لا نتحدث عن أسلحة محرمة دوليا ولا محليا بل مواجهات يحق لكل طرف فيها أن يستعمل كل خططه وتكتيكاته ووسائله ليربحها. الشاهد لم يسقط بعد وبإمكانه أن يخرج منتصرا لو قدر له أن يربح مواجهاته الثلاث القادمة: نيل الثقة عن التحوير الوزاري المنتظر، وتمرير قانون المالية، وامتصاص غضب صندوق النقد المفترض. شروط نجاح الشاهد قال المحلل السياسي المقيم في لندن، صابر أيوب، إنه في حالة نجاح الشاهد في التوفيق بين المطالب العمالية لنقابة الشغل وبين شروط المقرضين الدوليين، واستطاع أن يدير الاقتصاد بشكل جيد ويخفف من العبء الاقتصادي الموجود على الجبهة الاجتماعية فإنه سينجح في اجتياز محاولات إسقاطه». وأضاف خلال مشاركته في برنامج «وراء الحدث» على فضائية «الغد» الاخبارية أن «الخطر الحقيقي على حكومة الشاهد هو تدهور الأوضاع الاقتصادية أكثر، وليس من أحزاب سياسة تفتقد إلى الأغلبية في البرلمان». 150 مليون دينار رجّح وزير المالية الأسبق والخبير الاقتصادي حسين الديماسي أن تبلغ كلفة الخسائر المحتلمة للإضراب (الذي دعا إليه) الاتحاد العام التونسي للشغل في القطاع العام يوم 24 أكتوبر 2018 (قبل إلغائه) حوالي 150 مليون دينار. وحول كيفية احتساب نتيجة هذه الخسائر المباشرة (...) أوضح الديماسي في تصريح ل(وات) السبت الماضي أنها حصيلة اقتسام حجم الثروة التي تنتجها المؤسسات العمومية (ما يقارب 30 مليار دينار) على عدد أيام العمل في السنة (نحو 200 يوم عمل باحتساب العطل الأسبوعية والأعياد السنوية).