هيئة الحقيقة والكرامة تثير الجدل في حياتها ومماتها، وهذا الجدل تحوّل أمس إلى ما يشبه الأزمة داخل البرلمان… هي مناطحات سياسية يهم جميعنا فيها أن يسأل: هل ضيعنا فرصة إظهار الحقيقة وإعادة الكرامة لمن افتقدها والفوز بالمصارحة قبل طي ملف مظلم بالمصالحة؟. تونس - الشروق: «قررنا المقاطعة إلى حين توضيح الأمر من قبل رئاسة الحكومة» هذا ما أكده أمس عضو مجلس النواب عن كتلة الحرة لحركة مشروع تونس محمد الطرودي بعد أن حذت كتلته حذو كتلة النداء في مقاطعة أشغال البرلمان. هو في الظاهر طلب مباح ومشروع في ضرورة تدخل الحكومة لتنفيذ قرار مجلس النواب الذي أنهى عمل هيئة الحقيقة والكرامة بالتصويت، لكنه في الباطن يحرج رئيس الحكومة مع علاقته بحركة النهضة بما أنها تتمسك بدعمه مثل تمسكها بالدفاع عن هيئة بن سدرين. هيئة الحقيقة والكرامة تواصل صنع الجدل والخلاف والتفريق بين الأحزاب وحتى بين عموم التونسيين إذ لا نجد موقفا واحدا وموحدا منها بين التونسيين كلهم. ما بني على التسييس حكاية الجدل بدأت منذ نشأتها عندما تم تسييس تركيبتها، وترسخت الحكاية عند تتويج المختلف من حولها سهام بن سدرين رئيسا لها وهي المتضررة من نظام بن علي وبهذا باتت خصما وحكما في جزء مهم من مرجع نظرها الزمني. وقد توطدت تلك الحكاية بالخلافات التي عصفت ببيت الهيئة الداخلي واكتملت بالجلسات التي خيبت آمالنا في الوصول إلى النتائج التي ترضينا كلنا وتريحنا على اختلاف انتماءاتنا وآرائنا ومواقفنا. هي هيئة سعت إلى تكريس العدالة الانتقائية في حكم بعضنا وهي مختصة في العدالة الانتقائية لدى بعضنا الآخر وهي لا تهدف إلا إلى العدالة الانتقامية لدى بعضنا الثالث… ولعل الأدق والأقرب إلى الموضوعية أن ما بني على التسييس يبقى مسيّسا، وما تم تشييده على الجدل يولّد بالضرورة مزيدا من الخلافات وأكواما من الفشل بحجم ما ورد على الهيئة من ملفات. لماذا نجحت دول مثل جنوب إفريقيا في طي صفحة الماضي المؤلم والتوافق على بدء صفحة بيضاء فيما تعثرنا نحن التونسيين؟. ما أبعدنا عنهم الجواب أن الدولة التي عانت من الميز العنصري لم تسيس العملية كما فعلنا، وعهدت برئاسة «هيئة الحقيقة والمصالحة» لشخصية توحد ولا تفرق (القس توتو) عكس ما فعلنا، ولأن ضحايا الميز العنصري كانوا يتطلعون إلى الصفح أكثر من رغبتهم في الانتقام والتشفي عكس أغلبيتنا، ولأن لها زعيما تاريخيا في قيمة مانديلا رفض المتاجرة بقضيته حبا في بلده، ونكرانا لذاته، وسموا بحزبه وغفرانا لمن أذنبوا واعترفوا بذنوبهم. بعد 8 سنوات من الثورة و4 سنوات ونصف من انطلاق عمل هيئة الحقيقة والكرامة لم نتفق حول حقيقة واحدة تقنعنا كلنا ولم يسترد العديد منا كرامتهم المسلوبة منهم ظلما ولم يصارح بعضنا بعضنا الآخر ولم يعترف جميع المذنبين بذنوبهم ولم نتصالح صلحا بينا لا لبس فيه ولا تغرير ولا مغالطة ولم نطو الصفحات المظلمة من تاريخنا المعاصر لنفتح صفحة بيضاء بقلوب صافية وصافحة ومحبة. لو فعلنا النزر مما فعله مواطنو جنوب إفريقيا وساستها لكنا الآن ننعم بالمصالحة الشاملة التي ترضينا كلنا، فهل ضاعت الفرصة وانعدم الأمل؟. كلنا مظلومون يمكن لكل واحد منا اليوم أن يقدم جملة من الحقائق بدل الحقيقة المرجوة ويمكنه أن يستعيد كرامته بنفسه إذا كان يفتقدها ويمكنه أن يصارح غيره بما شاء بعد حجب ما يورطه ويمكننا أن نتصالح غصبا عنا فرئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي الذي قدم مبادرته حول المصالحة الإدارية يمكنه (أو من يحل مكانه بعد الانتخابات القادمة) أن يمرر إلى البرلمان مبادرة حول المصالحة الشاملة فتصادق عليها الأغلبية البرلمانية. المشكلة في هذا كله أننا لن نتفق حول حقيقة واحدة ولا مصارحة صادقة ولا مصالحة يقبل بها جميعنا ما يعني أننا ضيعنا فرصة مناسبة للتوحد وإزالة الحقد لن تتكرر مرة أخرى. هناك متضررون من فترة بورقيبة وآخرون من فترة بن علي وآخرون من الحكومات التي تشكلت بعد الثورة. قمة العبث في تحولهم من متضررين إلى مظلومين أبد الدهر لأن العديد منهم لن يسترد حقوقه ولا كرامته ولن يستمع إلى اعتذار جلاده ولن ينال حقه في التعويض... أما قمة المأساة فهي أن الظلم لن يكون حكرا على من تضرروا سابقا بل يشملنا كلنا لأننا نملك حقا في معرفة الحقيقة وتطبيق العدالة وإقامة المصالحة المجزية لجميعنا وطي صفحة الماضي بحلوها ومرها… قد نحتاج إلى قانون جديد خاص بمن ضيعوا علينا هذه الفرصة وهيئة غير مسيسة يعترفون عبرها بالحقيقة ويصارحوننا فنصالحهم بعيدا عن الانتقاء والانتقام.