احتضنت قاعة الفن الرابع أول أمس الأحد 09 ديسمبر 2018، عرضين متتاليين لأولى مسرحيات المسابقة الرسمية للدورة ال20 لأيام قرطاج المسرحية. وهي مسرحية «جويف» لحمادي الوهايبي. تونس (الشروق) – قدم مركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان، مساء أول أمس سردية مشهدية مسرحية لا تخلو من الجمالية الركحية، عن يهود تونس. عنوانها «جويف» أمنها مخرج المسرحية ومؤلفها حمادي الوهايبي، بمعية الفريق التقني وموسيقى اليهودي التونسي باتريك سلامة والفريق الفني، المتكون من الممثلين، فاتحة المهدوي وحسام الغريبي وفاتن بلحاج عمر ومحمد السايح عويشاوي ويسر عياد ووهيبة العيدي. الظلمة مع بصيص نور، هكذا كان الفضاء، وعلى الركح وضعت ثلاثة كراسي زرقاء اللون واحد على اليمين وآخر على اليسار في مقدمة الركح ووراء كل كرسي واجهة مستطيلة الشكل بالكتابة العبرية، وأما الكرسي الثالث فتوسط الركح في الخلف. ولا تلبث أن تدقق في الفضاء حتى تخرج أولى الشخصيات «منوبي» (محمد السايح عويشاوي)وقد بدا في أول العمل شخصا حاملا لإعاقة مهمته حراسة معبد اليهود وإقامتهم في مكان بالعاصمة، ليكتشف المتفرج لاحقا أنه أمني أو عسكري تونسي كما جاء في المسرحية مكلفا بمهمة بالمكان... وفي المشهد الموالي تظهر شخصيتا «عزيزة» (فاتحة المهدوي) و»دليلة» أو «داياحداد»، وهي يهودية تونسية، درست القانون في المركب الجامعي بالمنار. وكانت في العمل الشخصية التي حملت رسالة الوهايبي الواضحة والمكشوفة والمتمثلة في أن يهود تونس، مواطنون تونسيون لهم الحق في جميع الحقوق التي يتمتع بها المواطنون التونسيون.. وتتسارع الأحداث في بناء سردي محكم. وتخرج الشخصيات بشكل ثنائي فثلاثي ورباعي ثم جماعي. فتلمس تطورا مقصودا، أضفى تفردا وخصوصية جمالية على مشاهد المسرحية، التي كانت، رغم الحركة والمد والجزر بين شخوص العمل، عبارة عن لوحات فنية تشكيلية، بإمضاء الفنان حمادي الوهايبي. وكما أسلفنا الذكر عبرت شخصية دايا حداد عن رسائل الوهايبي الذي انطلق كما كان واضحا في العمل وكما صرح بذلك سلفا في حوار ل»الشروق» مما هو متداول من نظرة دونية الى الجالية اليهودية في تونس، والتي تتلخص في المقولة السائدة منذ زمن بعيد «حاشاك يهودي». وهي العبارة التي كانت سببا في طرد بطلة العمل «داياحداد» بعد صفعها لمدير الجامعة حين تلفظه بهذه المقولة التي يمقتها يهود تونس بشدة. وقد عبرت عن ذلك، «دايا»، مرارا في المسرحية. «دليلة» أو «دايا»، شخصية اختارها الوهايبي، الذي لم يكن محايدا في طرحه، للدلالة على التونسية اليهودية العاشقة لتراب تونس والمدافعة عن تاريخ بلدها بشراسة. فهي التي اكتشفت حقيقة منوبي الحارس. وهي أيضا التي ساعدته في مهمته، وخاصة الحفاظ على مخطوط نادر من «التوراة» يعود تاريخه إلى 500 سنة. وهي أيضا من آوت «عزيزة» التونسية المسلمة. وتسترت على ديانتها أمام اليهود المقيمين معها وخاصة المسؤولة عن المعبد «حبيبة» والتي كانت متيمة ب»منوبي». وهي التي وقفت أيضا في وجه «ميمون ينواخادير» (حسام الغريبي)، القادم من إسرائيل عبر موانئ مجهولة والمتستر وراء شخصية عالم آثار.. وهذه الشخصية (ميمون ينواخادير) كانت المحرك الأساسي للأحداث في المسرحية. فهي من جهة الشخصية الأخطر في العمل لأنها جاءت من أجل مهمتين أساسيتين الأولى سرقة النسخة النادرة من «التوراة» والثانية هي إقناع يهود تونس بالعودة إلى «أرض الميعاد» إسرائيل. وهذه الشخصية كما شاء أن يصورها صاحب «جويف» كانت كاريكاتورية، هي شخصية إسرائيلي صهيوني، متطرف إلى أبعد الحدود. وجسدها باقتدار الممثل حسام الغريبي، حتى يجعلك تكره الشخصية، الرسم الكاريكاتوري لهذه الشخصية جعلها إضاف الى كونها منبوذة، على قدر كبير من المكر والدهاء والطرافة في آن واحد. ولا أدل على ذلك من حواراتها مع بقية الشخصيات، وخاصة مع الخادمة «ساسية» التي كرر في غزله بها تعبير «قلبي دقداقة.. برواقة»، تعبير تفاعل معه الجمهور بالتصفيق والضحك. مسرحية جويف كما سبق وتحدث عنها صاحبها ستثير حتما، المتطرفين من اليهود والمسلمين، لأن حمادي الوهايبي كانت رسالته واضحة غير مشفرة. بل حمل صاحبها جرأة نادرة لم يسبقه إليها أحد. فأكد من خلال «جويف» أن الأرض تتسع للجميع مسلمين ويهودا. ودعا إلى القطع مع النظرة الدونية السائدة للأقليات اليهودية التونسية، في دعوة مبطنة وواضحة إلى إعادة النظر في التاريخ وفي المسلمات الثقافية والحضارية التي أدت إلى هذه النظرة. كما كانت دعوة الوهايبي إلى التعقل وإلى التسليم بأن الموطن والوطن حق لكل مواطن بغض النظر عن دينه. لقد نجح حمادي الوهايبي، في تقديم طرح جريء في موضوع حساس. وهو علاقة المسلمين باليهود في تونس. ولكنه نجح أكثر في كتابة نص رائع وتقديم رؤية إخراجية وإخراج وسينوغرافيا ممتعة، تريح العين بقدر ما تبعث الطمأنينة لدى المتلقي في متابعته لموضوع مسكوت عنه، وحساس. وهذا يعود أصلا الى أن خطاب الوهايبي في «جويف» خاطب العقول. ولم يخاطب الحواس.