هناك عدة مداخل يمكن من خلالها تحديد مهام الدول وخاصة علاقة الحكام بالمحكومين. ومن بين هذه المداخل ذلك الذي يعتبر ان ممارسة الحكم تفرض بشكل بديهي القدرة على التوقع، ذلك ان في حسن التوقع اشارة الى تمكن من اليات الحكم ومن حسن الاستماع لتطلعات المحكومين ومن وضع البرامج والرؤى الكفيلة بالتفاعل الايجابي مع هذه التطلعات . ولا شك ان البناء الديمقراطي بمكوناته الاساسية (احزاب... مؤسسات منتخبة... وسائل اعلام) هوفي جوهره محاولة لمنح القدرة على التوقع اقصى درجات الفاعلية والمردودية. ولكن الاحداث التي تعيش على وقعها فرنسا منذ اسبوعين تفرض وضع قدرة الدولة واجهزتها على حسن التوقع خاصة وان فرنسا تمثل تجربة متاصلة في الديمقراطية وانها اوكلت ادارة شانها الى شاب دخل قصر الاليزيه وهويبشر الجميع بقدرته على تحقيق رغبات الشعب الفرنسي وعلى تمكين بلاده من استرداد مواقعها التي فقدتها في ساحة الدول الكبرى . وفي اعتقادي فان هذه الوضعية تحيل الى «مفارقة» واضحة بين اليات السير العقلانية للمؤسسات بما فيها المنشات الاقتصادية وطغيان العواطف والانفعالات على اهم حقول النشاط الانساني ونعني بها الاقتصاد والسياسة . لقد عوض «الاتصال» الفكر السياسي واصبح هوالمحدد للتوجهات وهوالطاغي على الاستراتيجيات التي يضعها الفاعلون الاقتصاديون والسياسيون. وطغيان الاتصال جعل من الخطاب السياسي منتوجا معلبا يجب ان ينال ولوالى حين «ثقة الناخبين» دون حرج من ان ينقلب عليها لاحقا وهوما يؤدي الى خيبات الامل المتكررة التي لا نراها في فرنسا فقط بل يمكن ان تعيشها عدة بلدان بما فيها العربية . لقد عوض «الخبراء « الاداريين البيروقراطيين في القدرة على الفعل والتاثير خاصة وان «التشبيك» قد ادى الى تحول الدولة الى مجرد اداة غالبا ما تخضع لاحكام السوق التي تتحكم الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للدول والقارات في خيوط لعبتها الظاهرة والخفية . ولا شك ان الفاعلين الاقتصاديين في بلادنا مدعوون يتفاعلوا مع هذه التحولات العميقة خاصة وان النجاح بالنسبة للمؤسسة الاقتصادية يمر بكل تاكيد عبر حسن التوقع لانه لا يمكن تخيل نشاط اقتصادي دون تخطيط وتوقع. ولم يعد التوقع بالامر اليسير في ظل ما يتاكد من انفلات النزعات الاحتكارية في الدول المهيمنة من عقالها من خلال محاولات الاغراق في المديونية من ناحية وفرض اتفاقيات دولية غير متكافئة من ناحية اخرى. ولا يعني هذا التشخيص تسليما بالواقع بقدر ما يمثل دعوة للتفكير في «بدائل» لها القدرة على الصمود من خلال التوجه نحوافاق جديدة وتبني اليات لها القدرة على «الصمود» . الافاق الجديدة تمثلها اساسا الاقتصاديات الصاعدة في اسيا وافريقيا. ذلك ان ازمات النموذج الفرنسي المتكررة تدعونا الى ان نعتبر فرنسا شريكا وان نسحب عنه صفة النموذج الذي يحاول البعض اجبارنا على التعامل من خلالها معه . ان قصص النجاح الصيني والكوري والياباني والاثيوبي والرواندي تمثل مفاتيح هامة لاقتصادنا ولمؤسساتنا في ظل ما يتاكد من علامات ازمة وعطالة اصابت النموذج الاوروبي واعاقت اقتصادياته. واما الاليات فهي بالاساس تضامنية قوامها الندية وتجنب النظرة الربحية الجشعة وايضا انخراط فاعل في اهم تحولين في المستوى الاقتصادي وهما التحول الطاقي نحوالطاقات الجديدة والمتجددة ونحوالاقتصاد الاخضر والازرق... ان في التخلص من التهافت على مراكمة الارباح من شانه ان يكون المدخل الاساسي لرد الاعنبار للدولة وللعيش الانساني المشترك وللشفافية وحين تتوفر هذه الشروط يضحي التوقع ممكنا.