«اتحاف أهل الزمان» عمل تلفزي يكتب تاريخ الحركة الإصلاحية لتونس البايات اعتمدنا في عملنا على كتاب ابن ابي الضياف اعتبارا لدقته التاريخية ان اكبر سؤال يطرح نفسه بإلحاح في الإنتاج الدرامي بدرجة أولى ما وراء قلة التفاتنا في أعمالنا الدرامية لتاريخ تونس عبر العصور.. أيُعزى ذلك إلى انصراف الكتّاب والأدباء عن كتابة المسرحية أو السيناريو التلفزي والسينمائي لوعورة اصطياد الخيال الفني أم لعزوف المخرجين أو عدم انسجامهم مع نصوص قد تُكْتَبُ بصيغة يُخشى أن يتطرق إليها الخطأ؟؟ أو أن تشحَنَ ببعض الحقائق والإسقاطات التي تتطلّب من المخرجين معرفة تكمن وراء النص وتحتاج إلى ثقافة من مستوى معين؟ أم لأنه لا وجود لمنتج أو قناة تلفزيه يطلب هذا الصنف من الإنتاج؟ أم لأن الكاتب أو المنتج يتوقّع عدم استساغة الجمهور لهذا الصنف من الإنتاج؟ هذه المجموعة من التساؤلات حول ندرة التفاتنا لنشر تاريخ تونس تلفزيا على وجه الخصوص كان وراء هذا اللقاء بالأديب وصاحب التجربة التلفزية الأستاذ عبد الجبار الشريف الذي بَادرته بالسؤال عن جديده فقال: جديدي التلفزي لرمضان القادم - ان شاء الله- وحسب الظروف، مشروع وثائقي روائي تاريخي بعنوان (إتحاف أهل الزمان) يستقي مادته التاريخية أساسا من كتاب (اتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان) للمؤرخ التونسي أحمد بن أبي الضياف - قاطعته مازحا:«يعني أنك لم تخرج عن تخصصك الثقافي في تقديم الجديد من الكتب ضمن برنامج «إصدارات تونسية أجاب مبتسما: والجواب صحيح... فتعاملي اليومي مع الكتب والكُتاب كان السبب في انتباهي لهذا الأثر التاريخي الهام. فقد قدّمت كتابا للصديق الأستاذ أحمد رضا حمدي عنوانه (حلم خير الدين) استقى مادته من إتحاف ابن أبي الضياف.. فاقترحت عليه فكرة تحويل الإتحاف إلى عمل وثائقي روائي فرحبّ بالفكرة وتحمّس لها – فكان الوثائقي الروائي في 15 حلقة ثمرة تعاون بيننا استغرق انجازه أشهرا من العمل الجدّي والتعب المضنى قدّمناه عن طريق شركة خاصة للإنتاج الفني للتلفزة التونسية في الآجال المطلوبة ومازلنا ننتظر الرّدّ.. سألت الأستاذ عبد الجبار الشريف عن مبرّرات اختيار المصدر والعنوان والموضوع وتقنية الوثائقي الروائي واللغة والأهداف والخطوط العريضة لهذا العمل – فأجاب: اخترْنا كتاب «إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان» للمؤرّخ التونسيّ أحمد بن ابي الضياف» كمصدرٍ للمادّة التاريخيّة لعملنا الوثائقيّ، لاتّفاق المؤرّخين التونسيّين والباحثين الأكاديميّين على قيمتهِ المرجعية خاصة في الفترة التي يُصوِّرُها الوثائقيُّ، أيْ بدايةً من 1846، باعتبار أنّ ابن أبي الضياف لم يكُنْ مؤرّخا لتلك الفترة فحسْبُ بلْ كان لهُ فيها دوْرٌ كبيرٌ ككاتبِ سرٍّ لعدّة بايات، ووزيرٍ، ومبعوثٍ رسميّ لتونس لدى الدّول، وكمُنْتمٍ إلى جماعةِ الإصلاح، جماعةِ خير الدين التونسيّ، في القرن التاسع عشر. وفي سياق الاختيارِ ذاتِهِ ارتأيْنا أن يكون الجُزء الأوّل من اسم كتابِ ابن أبي الضياف «إتْحافُ أهْل الزمان» عُنوانا لعملنا لتوفُّرِ هذا العنوان على عنصريْن هامّيْن: - »إتحاف»، بما يعنيه الإتحافُ لُغةً مِن اختيار الثمين والنادر والمُمتع المشوّقِ، على صعوبة هذا الاختيار بالنّسبة إلى عملٍ يرْمي إلى أن يكون وفيّا للتاريخ، أمينا في عرْض وقائعه. - «أهل الزّمان «،ومن يقرأ كتاب الإتحاف قراءة عميقة واعية يدرك أن أهل الزمان الذين كتب لهم ابن أبي الضياف ليْسوا بالضرورة أهل زمانه، ولا أهلَ زمانٍ مُحدّد، بل هم الذين يعيشون زمانهم ويفْهمون مقتضياته، أي الذين يمتلكون ما نسمّيه اليوْم «الوَعْي بالزّمن»، وهو ما لا يزالُ يَنقُصنا اليوم كعرب، لنضعَ أرجُلنا في طريق الحَداثة. أمّا عن اختيارنا الحركة الإصلاحيّة التونسيّة موْضوعا لعملنا الوثائقيّ فلذلك عدّة مبرّرات محورُها خصوصيّة هذه الحركة في مُحيطها العربيّ والإسلاميّ، وحتّى العالميّ، نخْتارُ منها اثنيْن: الأوّل أنّ الحركة الإصلاحيّة التونسيّة كانت مبكّرة بالمقارنة مع الواقع السياسيّ والفكريّ في البلدان العربيّة والإسلاميّة (بيّن هذا رشاد الإمام في كتابه: التفكير الإصلاحيّ في تونس في القرن التاسع عشر إلى صدورِ عهدِ الأمان). الثاني أنّ السبْق الذي حقّقتهُ تونس في القرن التاسع عشر، بإصْدار عهد الأمان والدستور والعمل بالمجالس، وبتحْرير العبيد والمساواة بين الجميع أمام القانون، عادتْ لِتُحقّقهُ مرّةً أُخرى بثورتها ودستورها الحديث واختيارها للديمقراطيّة، ممّا يِؤكّدُ أن الحضارة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان مفاهيم متأصِلةٌ في البنْيةِ الثّقافيّة العميقة لهذا الشّعب، وأنّها الضّمانُ لمستقبلٍ أفضل، رغْم الوضع الصعب الذي تمُرُّ به البلاد في الوقْتِ الحاضر. وقد اخترْنا لعملنا تقنية «الوثائقيّ الدراميّ»، وهو اختيارٌ صعبٌ وجديدٌ في الوقت ذاتِه. صعْبٌ لأنهُ ليْس وثائقيّا صرْفا كما هو شأن الأشرطة والأعمال الوثائقيّة الكلاسيكيّة، المُنَمّطة، التي لم تعُدْ تشُدُّ اهتمام المُشاهد الجديد. كما أنّهُ ليْس عملا تخييليّا خالصا، لقيامِه على مرجعيّةٍ تاريخيّةٍ يحرِصُ على احْترامها. أمّا تقنيةُ «الوثائقيّ الدراميّ» فهي « أحدُ أهم الأجناس السينمائية والتلفزيونيّة التي لا تعتمد على القصّة أو الخيال، بل تبحث عن الحقائق والأدلّة التي طُمِست معالمُها أو مُحيت آثارها، من خلال معالجة إبداعيّة خلاّقة للواقع ترتكزُ أساسا على تقديم حجج وبراهين عقلانية ومعرفية لموضوع أو قضية محدّدة بطريقة موضوعية ومُبسّطة فهي تقنيةٌ تمكّنٌ من تجنّبِ الرّتابة وجفاف المادّة التاريخيّة نُلاحظُ استخدامًا مُتزايِدًا لها في تلفزاتِ العالم، لكنّها في تونس، ما تزالُ في خُطواتها الأولى. وقد اخترْنا كذلك أن يكون عملُنا باللغة العربيّة الفُصحى، وهي فُصحى مُبَسّطة، قريبةٌ من لغة التخاطُبِ اليوْميِّ، وذلك لعدّةِ أسبابٍ أهمها : - فتح الآفاق لهذا العملِ للانتشار والروّاج عربيّا. - جدارة الحركة الإصلاحيّة التونسيّة الرّائدة بهذا الانتشار العربيّ. أمّا من جهة الأهداف فمن أهمّ أهداف هذا العمل: - التعريفُ بكتاب من أهمّ ما كتِبَ في مُدوّنةِ تاريخ تونس، إن لم يكُنْ أهمَّها، والمساهمةُ في تثْمين منزلة مؤلّفِهِ، كمؤرّخٍ كبيرٍ، وصاحبِ رؤيةٍ سياسيّةٍ عميقة، وشاهدٍ على العصر. - تقريبُ كتاب الإتحاف من جميع المشاهدين، بمختلف مستوياتهم واهتماماتهم، وخاصّة منهم الشّباب، واطلاعهم على ثراء الفكر الإصلاحيّ التونسيّ، و ريادةِ التجربة الإصلاحيّة التونسيّة في القرن التاسع عشر، ممّا من شأنه أن يحفّزهم على الاعْتزاز بها وبهويّتهم الوطنيّة. والعملُ الذي اقترحناه على التلفزة التونسيّة يتمثّلُ في سلسلةٍ وثائقيّةٍ دراميّةٍ مِن خمسةَ عشر حلقةً تُصوّرُ الحركة الإصلاحيّةَ التونسيّة من سنة 1846، تاريخِ زيارةِ المشير أحمد باي الشهيرة إلى فرنسا، وهي سنةٌ شهِدتْ ثلاثَ محطّاتٍ تاريخيّة هامّة: وفاةَ ابن أبي الضياف، وسقوطَ مصطفى خزندار، وتوْليةَ خير الدين الوزارة الكبرى1873. وما بيْن هذيْن التاريخيّن مراحلُ فرْعيّة للحركة الإصلاحيّة التونسيّة: مرحلة الإرهاصات الأولى مع حمّودة باشا الحُسيْنيّ، فمرحلة إصلاح أحمد باي (1846-1885) ، فمرحلةُ المحاولات الإصلاحيّة لخير الدين وانتكاستُها الأولى، وتبدأ من سنة 1857، تاريخِ تعيين خيْر الدين وزيرا للبحريّة، وتنتهي باستقالته عام 1862، واعتزاله السياسة، ثمّ انتفاضة علي بن غذاهم عام 1864 وما أعقبها من دمار وتمكُّنٍ للفساد و الخزنداريّين وإقصاءٍ لرجالِ الإصلاح إلى حدود سنة 1873/ سنة سقوط خزندار وتولية خير الدين مكانه. ونحنُ نأملُ أن يحظى هذا بالقبول من قِبَلِ التلفزة التونسيّة، التي هي مرفقٌ عموميُّ مؤتمنٌ على الذّاكرةِ الوطنيّة في إطارِ مشروعٍ ثقافيّ وطنيّ بصرْف النظر عن تكاليفه و مردودهِ المادّيّ.. وسألت عبد الجبار الشريف أخيرا : «واذا تعذّر على التلفزة التونسية إنجاز هذا العمل فكيف سيكون موقفك؟ « سكت قليلا ثم أجاب بهدوئه المعتاد : «أتقبّل الأمر وأتفهّم خيارات التلفزة وتوجّهاتها في المجال الدرامي ولكنّي مع ذلك لن أتراجع عن قناعاتي وسأظل أطالب بأننا نريد أن نحيا الماضي مع أبنائنا وأننا نودّ لو أتاحت لنا التلفزة أكثر من فرصة كي يرى أبناؤنا أمسنا الذي أصبح حاضرنا حتى يتعرفوا على تاريخ بلادنا لنستمدّ منه العبرة ونعيش في رحاب انتصاراته وانكساراته.