فيما يغرق المواطن في مشاكله ومشاغله اليومية، يمعن السياسيون في مطاردة أحلامهم وأوهامهم كما لو كانت السلطة في حدّ ذاتها هدفا وليست وسيلة وأداة لخدمة الناس وترميم أوضاع البلاد. وهذا الواقع يخلق فجوة ما فتئت تتسع من سنة إلى أخرى.. فجوة عجزت كل الأحزاب عن إيجاد الوصفة الملائمة لردمها وتصحيح الأمور وإعادة السلطة إلى ماهيتها الأصلية: أداة لخدمة الناس وليس أداة للتحكم في رقابهم وللركوب على آمالهم وانتظاراتهم واحتياجاتهم لتحقيق غايات حزبية سياسية ضيّقة تبدأ وتنتهي عند الصعود إلى الكراسي. والواقع أن العملية السياسية في بلادنا تشكو خللا فظيعا أسهم في تعميق الهوة بين المواطن والمسؤول، بين المواطن ورجل السياسة. فالسياسيون دأبوا ومنذ سنوات على تقديم أنفسهم بشكل جعلهم يمثلون ظواهر كلامية ليس أكثر. ومع الأيام والشهور تحوّل التنافس الذي يفترض أن يقرّب الساسة من المواطنين ويحشد حولهم المريدين إلى مجرّد «حلبات» لتسجيل النقاط على حساب الخصوم والتموقع للانقضاض على السلطة بلا رؤى ولا برامج حقيقية تعطي للسياسة معناها وتعيد للعملية الديمقراطية مضامينها.. وبالنتيجة فإن غياب الرؤى والبرامج هو الذي يجعل الصراعات إلى صراعات الديكة أقرب. صراعات تضع السياسيين بدل البرامج والأفكار والرؤى وجها لوجه.. وهو ما يزيد في تعميق ازدراء المواطن للسياسيين وانكفائه على نفسه وعلى آماله وانتظاراته بعد الخيبة الكبرى التي أصيب بها، والتي جعلته يتوصل إلى قناعة مفادها بأن السياسيين لا يطرحون أكثر من ركوب مشاغله ومشاكله وانتظاراته للوصول إلى السلطة.. وبأن علاقتهم به تنتهي عند الاحتيال عليه وبيعه الوهم للحصول على صوته.. وقد وفّرت السنوات التي مضت بكل المواعيد الانتخابية التي شهدتها كل الدلائل على عجز السياسيين عن حل مشاكل البلاد والعباد.. وهو ما جعل المواطن يعزف هو الآخر عن السياسة وعن الأحزاب وعن الانخراط الفاعل في كل الآليات التي يعتمدها العمل السياسي وفي طليعتها العملية الانتخابية. والانتخابات البلدية وفرت الدليل لمن لا يزال يبحث عن دليل. متى تستعيد النخب السياسية والأحزاب وعيها بأن هذه العبثية يجب أن تتوقف. وبأن صراع الديكة والتسابق على ترصيف الكلام في المنابر يجب أن ينتهي.. وبأن التنافس الايجابي يجب أن ينصبّ على البرامج والرؤى التي تنفع الناس.. ويجب أن يبدأ وينتهي عند استنباط حلول مبتكرة وتتلاءم مع واقع البلاد ومع طبيعة المشاكل والمعضلات التي تواجهها في كل الميادين والمجالات. ولعلّ هذه الوصفة السحرية السهلة والصعبة في نفس الوقت هي التي ستحسم بين الجميع. وهي التي ستوفر للمواطن فرصة الفرز الحقيقي والنهائي بين المتنافسين. والمواطن يمتلك من الفطنة والذكاء ما يجعله يميّز الخبيث من الطيّب ويفرّق بين من يريد خدمته وخدمة آماله وانتظاراته وبين من يريد ركوب مشاكله ومشاغله ودغدغة أحاسيسه للوصول إلى الكراسي فقط..