إن الموضوع الذي اتقدم به بين يدي حضراتكم لموضوع جاء ضبطه على وجهين. فقد اقترحت ان يكون عنوان الموضوع هكذا «مقارنة المذهب المالكي بسائر الاربعة». ثم كان الوجه الاخر في ضبط الموضوع هو الذي اعلن به عن هذا الموضوع وهو «مقارنة المذهب المالكي بالمذاهب الاخرى». ومع ما بين مدلول المذاهب الاخرى ومدلول سائر الاربعة من تفاوت في العموم والخصوص، فاني ارى ان النتيجة واحدة لان اقامة وحدة المذاهب لمقارنة المذهب المالكي بالنسبة اليها داخل الاربعة ثم مقارنتها هي جملة بالنسبة الى غيرها من المذاهب الاخرى. فالنتيجة واحدة والموضوع عين الموضوع سواء اقيل في عنوانه «بالمذاهب الاخرى» ام قيل في عنوانه «بسائر الاربعة». وان وحدة المذاهب الاربعة لقضية مشهورة . فلا يكاد يوجد انسان ينتمي الى الملة الاسلامية، او غير منتم الى الملة الاسلامية ممن يلم ولو الماما بسيطا بمبادئ عن الدين الاسلامي والحضارة الاسلامية، ليس في هؤلاء من لا يعرف المذاهب الاربعة . فهذه قضية مشهورة ولكن الناس مع اتفاقهم في معرفة هذه القضية المشهورة فانهم يتفاوتون في ضبطها وتحقيقها . فمنهم من يعلم المذاهب الاربعة ولا يكاد يسميها تفصيلا ومنهم من يعرفها ويسميها ولكنه لا يعرف لماذا كانت اربعة وباي شيء اختصت بهذا العدد. فربما ظن ظان ان ليس في الاسلام الا هذه المذاهب الاربعة، وربما كان غيره ادنى منزلة من الثقافة واقرب درجة من المعرفة فعرف ان هذه المذاهب الاربعة انما هي المذاهب السنية . فكان بذلك فقيها عارفا بما يقول. ولكنه لو حاول نفسه او حاوله محاوره ان يغوص على هذا المعنى من ان هذه المذاهب الاربعة هي المذاهب السنية وكيف كانت سنية ولماذا كانت اربعة لوجد مقومات كثيرة لهذه الحقيقة تعوزه عندما يريد ان يتعرف اليها فضلا عن ان يعرف بها. ولذلك فإنّنا نجد انفسنا في حاجة الى تقرير الوحدة كما قلنا في ما بين المذاهب الاربعة على اساس هذا المعنى المشهور الذي يدركه الناس اجمالا ولا يكادون يتبينونه تفصيلا وهو معنى التقابل بين السنة والبدعة. واقول التقابل بين السنة والبدعة لان الذين اعتبروا هذه المذاهب مذاهب سنية اعتبروا المذاهب المقابلة لها متولدة عن بدع ناشئة فاذا كان معنى البدعة معنى سلبيا انحرافيا ناشئا وكانت السنة سابقة للبدعة وكانت البدعة عبارة عن انشقاق من السنة او انشقاق عنها فانه لا محالة ان الاصل يتميز بتميز مواهي المنشقات . فمعنى السنة يتميز بتميز معنى البدعة لان السنة هي الاصل السابق وهي التي منها تكونت المقالات الاخرى التي خالفتها فاعتبرت في مقابلتها بدعة كما قال الله تعالى: «كان الناس امة واحدة «. ولذلك نريد ان نلم بمعاني الابتداع التي اثرت في تكوين المذاهب المخالفة للمذاهب السنية حتى نتبين بذلك معنى السنة الذي نريده وبضدها تتميز الاشياء فإنّه لا يخفى ان الابتداع الذي شعر به المسلمون على معنى انهم شعروا بان شيئا حدث في مجال التفكير والاعتقاد الديني لم يكن لهم به عهد من قبل انما يرجع هذا الشعور الى اربعة مظاهر : الاول هو حركة الخوارج، والثاني هو حركة القدرية، والثالث هو حركة الشيعة، ، والرابع هو حركة المعتزلة. ونسلسل هذه المظاهر هكذا على نسبة تسلسلها فيما بين بعضها وبعض وتولدها من بعض فان اول نزعة غريبة ظهرت في المجتمع الاسلامي نظر الناس منها الى صورة من التفكير في الدين لم تكن معهودة عندهم من قبل. وانما هي الحركة التي عرفت بحركة الخوارج والتي جعلت شعارها الاول «لا حكم الا لله» وهي الكلمة التي قال فيها امير المؤمنين علي بن ابي طالب رضي الله عنه انها « كلمة حق اريد بها باطل». ثم وضعوا اول مشكلة من مشاكل العقيدة الاسلامية وهي مشكلة الكفر والايمان حين حاولوا ان يعتبروا مرتكب الكبيرة كافرا خارجا عن حظيرة الملة الاسلامية. ثم نشأت وراء هذه الحركة حركة اخرى وهي حركة القدرية التي ارادت ان تسند حركة الخوارج فيما كانت تهدف اليه من استحلال المؤاخذة بالقتل على كل هفوة من الهفوات وان تدفع الاعتذار الذي ربما يعتذر به عادة عن التقصير وهو الاعتذار بالقدر فنفت القدر بتاتا وقالت انه لا قدر وان الامر انف وان جميع ما هو حادث من الاعمال ليس مسبوقا بالاستقرار في علم الله تعالى ولا في سابق قدره وعلى ذلك قامت نحلة القدرية التي هي عبارة عن نفاة القدر لا عن مثبتيه . ثم نشأت في مقابلة هذه وتلك، الحركة التي كانت مقابلة للغلو بالغلو . وكانت مقابلة بغلو الخوارج في شأن امير المؤمنين علي بن ابي طالب رضي الله عنه بغلو اخر فيه وفي ال بيته انتهى كما رفض الخوارج امامة علي بن ابي طالب لقبوله التحكيم وانتهى خلاف الشيعة لهم الى رفض امامة الشيخين ابي بكر وعمر فضلا عن خلافة امير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه . يتبع