جاء المذهب الحنفي، فظهر ما بين أتباعه وبين أتباع المذهبين المالكي والشافعي من التقارب في الموقف الكلامي ما كان ناشئا من ظهور الإمام أبي منصور الماتريدي مقارنا ظهوره تقريبا، لظهور الإمام أبي الحسن الأشعري، وعلى طريقة من التأويل تشبه طريقة الأشعري، وعلى غاية من الحفاظ على أقوال أهل السنة وأهل الحديث تشبه غاية الأشعري. فكان التقارب بين الأشعري الذي قلنا إنه مالكي أو شافعي، وبين الماتريدي الذي هو حنفي من تلاميذ الإمام محمد بن الحسن. كان من نتيجة ذلك أن تقارب الحنفية مع المالكية والشافعية، فأصبحت المذاهب الثلاثة: الحنفية باعتبار كونهم أتباعا للماتريدي، والمالكية والشافعية باعتبار كونهم أتباعا للأشعري، أصبحوا واقفين في موقف يقابل موقف الحنابلة الذين تمسكوا بأنهم حنابلة وبأنهم أتباع لأحمد بن حنبل فيما قاله لا يحيدون عنه، ولا يقبلون له تأويلا ولا يتبعون غيره، كما فعل الحنفية إذ اتبعوا الماتريدي أو فعل المالكية والشافعية إذ اتبعوا الأشعري. فأصبحت النسبة بين المذاهب على هذا الوضع: تقارب مطلق في العقيدة بين مذهبين، وتقارب قوي جدا في نسبته بينهما وبين المذهب الثالث. وهو المذهب الحنفي، وموقف تقابل تقريبا فيما بين مجموع المذاهب الثلاثة وبين المذهب الحنبلي. ثم كانت نشأة المذاهب الفقهية الأخرى غير السنية التي ترجع الى أصول اعتقادية مختلفة عن أصول المذاهب السنية قضت بأن تكون الفروع الفقهية لهذه المذاهب مختلفة بالطبع عن الفروع الفقهية للمذاهب الأربعة. المذاهب الأخرى: وهذه المذاهب منها ما يرجع إلى أصل شيعي مثل مذهب «الزيدية» ومذهب «الجعفرية» ومذهب «الاسماعيلية»، ومنها ما يرجع إلى أصل خارجي مثل مذهب «الإباضية». فكان وجود هذه الحركة الفقهية مبرزا للوحدة الجامعة بين المذاهب الأربعة على ما بين بعضها وبعض من تفاوت، وعلى ما بين بعضها وبعض من اختلاف أو شبه الاختلاف. إذ كانت المذاهب الشيعية على اختلافها ترجع إلى قول يخالفها فيه جميع المذاهب السنية مخالفة مطلقة، وهو القول بحجر حق الاجتهاد وقصره على آل البيت، والقول بأن الإمام المجتهد معصوم، ثم الاستناد إلى أخبار واهية منقولة بطرقهم عن أيمة آل البيت، مع أن المنقول في كتب أهل السنة عن أولئك الأيمة بأنفسهم يخالف ذلك، كما وقع مثلا في حديث نكاح المتعة الذي يسندونه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحال أن المروي في كتب أهل السنة، وهو الذي في «موطأ» مالك بن أنس أن مذهب علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وروايته إنما كانت خلاف ذلك، ومثل ما ينقل بكثرة عن غير الإمام علي بن أبي طالب من مثل الإمام جعفر الذي نسب إليه مذهب الإمام جعفر بن محمد، مما ينقل خلافه في كتب الإمام أبي حنيفة، وكتب أصحابه مثل كتاب «ظهرة الرواية» للإمام محمد بن الحسن، وينقل خلافه بكثرة في كتاب «الموطأ» لمالك بن أنس. وأما «الاسماعيليّة» فان رجوعهم إلى معنى الرمز ومعنى الباطن، مما قوى الحركات الهدامة التي هي حركة القرامطة وغيرها، قد كان معتبرا أصلا مجافيا مجافاة واضحة فيما بينهم وبين جميع المذاهب السنيّة. وكان الفرع الآخر وهو فرع المذاهب المستندة إلى النزعة الخارجية الذي يتمثل في المذهب الإباضي، يعتبر أيضا راجعا إلى أصل لا تقره بقية المذاهب، يعني المذاهب الأربعة، وهو أصل التفصيل بين الصحابة رضي الله عنهم في العدالة، والقول بالتكفير بالذنب، مما اعتبر جميع المذاهب الأربعة مخالفة للخوارج وللمذهب الإباضي فيه. فكانت هذه المقابلة من جهة أخرى معينة على بروز الوحدة بين المذاهب الأربعة على ما بينها من التفاوت بنسبة إعمال الأدلة، وعلى ما بينها من الاختلاف في التفصيل الجزئي في الموقف الاعتقادي بين أتباع الماتريدي والأشعري من جهة، وأتباع أحمد بن حنبل من جهة أخرى، واستمر هذا النوع مفرقا بين أتباع المذاهب الثلاثة وبين المذهب الرابع وهو المذهب الحنبلي تفرقة ما.