تُحيي بلادنا اليوم الذكرى الخامسة لختم دستور الثورة والانتقال الديمقراطي في مثل هذا اليوم من سنة 2013، معه دخلت تونس عهد الجمهوريّة الثانية. ورغم كل الانتقاد والتشكيك، فإنّ من حق الشعب التونسي اليوم أن يفتخر بأنّ لديه دستورا جاء نتيجة توافقات واسعة بين مختلف نُخبه وقواه السياسيّة والاجتماعية، دستور كُتب بشكل ديمقراطي تعددي تشاركي في إطار مبادرة لحوار وطني تاريخي وصادقت عليه أغلبيّة مطلقة في مجلس وطني تأسيسي منتخب. أنهى الدستور معضلة الصراع على السلطة، بإقرار الانتخابات سبيلا وحيدا للوصول إليها، وأعاد توزيع مراكزها بشكل يمنعُ عودة التسلّط والاستبداد وكلّ مظاهر الهيمنة ويُتيحُ مجالات لتوسيع هامش ممارسة الحكم مركزيا وجهويّا ومحليا. كما حسم الدستور نزاعات الهويّة، هويّة دولة مدنيّة عصريّة عمادُها المؤسّسات والقانون ومبدأ المساواة بين جميع المواطنين، وهويّة مجتمعٍ متصالحٍ مع ماضيه متفتّحٍ على العالم من حوله، مُقرّا أيضا بحقوق المواطن الاجتماعية والفرديّة، ضامنا لجميع مجالات الحريّات العامَّة والخاصّة. في فلسفته العامَّة لكتابته والمصادقة عليه وختمه، كان دستورا جامعا لكلّ التونسيّين، ومن أكبر مزاياه، في السياق التاريخي للثورة وما عرفته من أحداث، أنّه كان من بين المسالك والأدوات، إن لم يكن أهمّها على الإطلاق، التي أنهت الأزمة السياسيّة الخانقة التي اندلعت عقب الاغتيالات وحادثة ذبح الجنود الأليمة في جبل الشعانبي، مُحدثة حينها شرخا عميقا في المجتمع التونسي وكادت تذهبُ به إلى الاحتراب والتطاحن. كان الإجماع الوطني حينها حول النسخة الأخيرة من الدستور منعرجا حاسما في اتّجاه استكمال المرحلة التأسيسيّة والانطلاق في تفعيل مقتضيات الثقافة السياسيّة الجديدة بتنظيم الانتخابات العامَّة، التشريعيّة والرئاسيّة، سنة 2014 والانتخابات البلدية سنة 2018، والتقدّم خطوات في تركيز مؤسّسات الحكم الدائم والمستقر. وعلى الرغم من كلّ ذلك، فقد جابه الدستور لاحقا معارضة وعواصف من محاولات التعطيل، منها ما كان بغاية الهدم رفضا لما جاء من روح جديدة لتنظيم السلطة وتوزيعها أساسا، ومنها الموضوعي المستند إلى تعقيدات النّص والتباساته في بعض المواضع وأيضا مُعاينة صعوبات التطبيق وعدم التلاؤم مع الواقع. ليس هناك، دونما شكّ، دستور متكامل، ناهيك عندما تكون ولادته حديثة وواجهت إكراهات عديدة، والمشرّع التأسيسي نفسه كان واعيا بتلك الحقيقة فأبقى الباب مفتوحا لإجراء تعديلات لاحقة بعد انقضاء عهدة الخمس سنوات الأولى. وستكون النخبة السياسيّة في الفترة القادمة أمام رهان التعديل والتصويب، ولن يكون ذلك خطيئة بل واجبا لتجاوز ما ظهر من إخلالات ونقاط ضعف في النص الأوّل للدستور، شريطة أن يتمّ كلّ ذلك في ظلّ حوارات وطنيّة شاملة وجامعة لا تُقصي احدا، وتضعُ في اعتبارها أوّلا وأخيرا المصلحة الوطنيّة وتيسير تصريف شؤون الدولة والمجتمع وفتح آفاق جديدة أمامهُما، لا على قاعدة الاستقطابات الإيديولوجيّة والمناكفات السياسيّة والحزبيّة وأجندات التموقع وتصفية الحسابات والجذب إلى الخلف.