إن رقمنة الحركة التي تحدث عنها عبد الكريم الهاروني رئيس مجلس الشورى لحركة النهضة في اجتماعه الأخير للمجلس في 10 فيفري 2019 لا تعدو أن تكون تطورا تقنيا وليس تطورا فكريا ولم نجد لحد الآن التطور الفكري وخاصة الأيديولوجي الذي على حركة النهضة القيام به. والدليل على ذلك أنه عندما تناول في بيانه مسألة مدرسة الرقاب بسيدي بوزيد اكتفى بكلمة محتشمة عندما قال أنها شأن قضائي ودعا الى عدم تهويل الحادثة كما مر مرور الكرام على موضوع الجهاز السري. وكان عليه ان تكون له وللحركة الشجاعة في أن يقول أن حركة النهضة تريد أن تقدم نقدها الذاتي لكل ما حصل من تساهل والذي يعتبره البعض تواطؤا مع التيار السلفي العلمي والجهادي في فترة حكم الترويكا والتي أوصلتنا الى انتصاب مدارس داعشية طالبانية مثل ما تم اكتشافه مؤخرا في مدينة الرقاب ومدن أخرى عديدة بالبلاد التونسية منذ 2012 إلى 2019. وفي الحقيقة فإن الحركة ما تزال تسلك سياسة النعامة. كيف نرى موقع حركة النهضة والأحزاب الأخرى بعد انتخاب 2019 لا أتصور أن حركة النهضة لم تستخلص الدرس من نتائج الانتخابات البلدية والمحلية في 2018 والتي أعطتها ثلث ما كان عندها من أصوات في انتخابات 2011 رغم تصدرها موقعا مريحا جدا. لتدرك أن خزانها الانتخابي في تدحرج كبير وتدرك أن تقدمها في الترتيب لا يؤشر على جماهيرية، فنسبة المقاطعة في التصويت كانت كبيرة، ونسبة ثقة الرأي العام في الأحزاب السياسية في آخر سبر للآراء كان مريعا جدا بين 2 و4 بالمائة، وتدرك الحركة أيضا أن تداعيات الجهاز السري والمدارس المتطرفة التي تم الحديث عنها بعد الانتخابات البلدية سيُسبّب لها خسارة عشرات الآلاف من الأصوات في انتخابات 2019 الرئاسية والتشريعية ومع ذلك لم تطرح على نفسها أسباب هذا التدحرج الانتخابي رغم تصدرها المشهد السياسي. ولعل الإجابات الأولى عن هذه التساؤلات تكمن في أن حركة النهضة ما تزال حزبا بعيدا عن المدنية والديمقراطية الحقيقية التي انتظرها التونسيون منذ 2011، ويكفي أن نلقي نظرة أولية على التصريحات الأخيرة للمستشار السياسي للغنوشي لطفي زيتون وتأكيده على عدم صلوحية مصطلح الإسلام الديمقراطي الذي تبنته حركة النهضة في مؤتمرها العاشر سنة 2016 كبديل عن مصطلح الإسلام السياسي أي أنه يرفض المصطلحين معا، وتأكيده على تحرير الإسلام من العمل الحزبي باعتبار الدين قاسما مشتركا لجميع التونسيين ونود أن نلاحظ أن هذا الموقف لا يزال أقليا بشكل كبير داخل الحركة ويلزمه سنوات كثيرة لتبنّيه من طرف القاعدة النهضوية التي ما تزال إخوانية الفكر. كما نشير أيضا أن الأحزاب المدنية والديمقراطية لم تكن في مستوى اللحظة التاريخية، لكنها في رأيي تبقى أقل سوءا وخطرا من حركة النهضة فيكفى أن تجمع تلك الأحزاب شتاتها في حزبين أو ثلاثة أحزاب كبيرة وأن تكون جادة في مستوى مقاومة الفساد فعليا وتعزيز استقلال القضاء لكي تصبح أحزابا ناجحة وجماهيرية لان مكافحة الفساد ودعم استقلال القضاء هما المدخل الرئيسي للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وحياد الادارة. أما حركة النهضة فإنها بمواصفاتها الحالية لا ترتاح لاستقلال القضاء وتخشى أن يتقلص تأثيرها على الفضاء الديني والجمعياتي. هل تتحقق هذه الأمنيات؟ أملي أن يكون للمجتمع المدني وخاصة اتحاد الشغل واتحادي الأعراف ورابطة حقوق الإنسان وبعض الجمعيات الأخرى دور في تعبئة منظوريهم لإنقاذ نمط المجتمع التونسي الذي أصبح مهددا بشكل جدي وإنقاذ الاقتصاد من وضعه المتردي، وأملي كذلك أن يكون الناخب عموما مدركا لرهانات الانتخابات القادمة وأن يعطي للأحزاب الديمقراطية المدنية الحقيقية فرصتها لتحكم المرة القادمة بعيدا عن تجاذبات الأحزاب الأصولية التي تعرقل إنجاز برامجها. وأملي أن تتجه حركة النهضة بعد الانتخابات إلى أن تكون حزبا قويا في المعارضة بالبرلمان وتستغل وضعيتها الجديدة لكي تقوم بمراجعات عميقة لمقارباتها السياسية والاقتصادية والثقافية وأن تتشبع بفكرة المواطنة وحياد الادارة واستقلال القضاء، وتكون فرصة أيضا لمراجعة مقارباتها الأيديولوجية التي ما تزال تثير الريبة والشك والتي لم تُخْرجها لحد الآن من بوتقة الاسلام السياسي رغم الخطابات المطمئنة، فحركة النهضة لحد اليوم ما تزال أرضيتها الأيديولوجية بالخصوص منغرسة في الاتجاه الإخواني رغم التزويق الكلامي. ونحن نريد لها أن تقطع أشواطا في التونسة والحداثة وفي المدنية والديمقراطية وليس أفضل من أن تستغل وجودها كحزب هام في المعارضة بالبرلمان لتجد الوقت الكافي لإصلاح برامجها ومقارباتها الفكرية والتنظيمية وتصبح حزبا شفافا، هياكلها منتخبة بالكامل لا كما نراه اليوم، وتكون مصادر تمويلها شفافة. وحتى تكون بهذه المواصفات عليها أن تخصص السنوات العشرة القادمة أي مدة عهدتين برلمانيتين للبقاء في المعارضة بالبرلمان وذلك للقيام بهذه الإصلاحات الهيكلية لان الانتقال من حزب شبه ديني الى حزب مدني وديمقراطي لا يتم في أقل من هذه الفترة .