عمال بشركة منتصبة بصحراء تطاوين يحتجون ويطالبون بإلغاء المناولة    سليانة: إستئناف أشغال مركز الصحة الأساسية بمنطقة المقاربة بسليانة الجنوبية    زلزال بقوة 6.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    مفزع: استشهاد أكثر من 100 صحفي خلال ستة أشهر في قطاع غزة..    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الثلاثاء 23 أفريل 2024    محمد الكوكي: هدفنا هو التأهل للمشاركة إفريقيا مع نهاية الموسم الحالي (فيديو)    غدًا طقس شتوي 100% مع أمطار غزيرة ب6 ولايات    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    سوسة: تعرض شاب لصعقة كهربائية أثناء تسلقه عمود كهربائي ذو ضغط عالي..    عاجل/ تحذير من بيض رخيص قد يحمل فيروس أنفلونزا الطيور..    بطولة ايطاليا : بولونيا يفوز على روما 3-1    اقتطاعات بالجملة من جرايات المتقاعدين...ماذا يحدث؟..    مترشحة للرئاسة تطرح استفتاء للشعب حول تعدد الزوجات في تونس..#خبر_عاجل    لأول مرة: التكنولوجيا التونسية تفتتح جناحا بمعرض "هانوفر" الدولي بألمانيا    الإطاحة ب 9 مروجين إثر مداهمات في سوسة    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    رغم منعه من السفر : مبروك كرشيد يغادر تونس!    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    طقس اليوم: أمطار في هذه المناطق وانخفاض في درجات الحرارة    مدنين: حجز 4700 حبة دواء مخدر وسط الكثبان الرملية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    مهرجان هوليوود للفيلم العربي: الفيلم التونسي 'إلى ابني' لظافر العابدين يتوج بجائزتين    نقل مغني فرنسي شهير إلى المستشفى بعد إصابته بطلق ناري    الأمم المتحدة: آسيا أكثر مناطق العالم تضرراً من كوارث المناخ ب2023    اتحاد الشغل بجبنيانة والعامرة يهدد بالإضراب العام    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    أراوخو يكشف عن آخر تطورات أزمته مع غوندوغان    البطولة الأفريقية للأندية الحائزة على الكأس في كرة اليد.. الترجي يفوز على شبيبة الأبيار الجزائري    الجزائر.. القضاء على إره.ابي واسترجاع سلاح من نوع "كلاشنكوف"    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    البنك التونسي السعودي ... الترفيع في رأس المال ب100 مليون دينار    في اختتام المهرجان الدولي «إيتيكات» بسوسة.. شعراء وفنانون عرب بصوت واحد: «صامدون حتى النصر»    هذه أبرز مخرجات الاجتماع التشاوري الأول بين رؤساء تونس والجزائر وليبيا    مذكّرات سياسي في «الشروق» (1)...وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم .. الخارجية التونسية... لا شرقية ولا غربية    المنستير.. الاحتفاظ بمدير مدرسة إعدادية وفتح بحث ضده بشبهة التحرش الجنسي    الإعلان عن تأسيس المجمع المهني للصناعة السينمائية لمنظمة الأعراف "كونكت"    بوعرقوب: القبض على 4 أشخاص كانوا بصدد سرقة أسلاك نحاسية خاصة بشركة عمومية    بداية من يوم غد: أمطار غزيرة وانخفاض في درجات الحرارة    استلام مشروع تركيز شبكة السوائل الطبية لوحدة العناية المركزة بقسم الأمراض الصدرية بالمستشفى الجامعي الهادي شاكر    تونس: وفاة 4 أطفال بسبب عدم توفّر الحليب الخاص بهم    الكاف: تقدم مشروع بناء سد ملاق العلوي بنسبة 84 %    بن عروس: توجيه 6 تنابيه لمخابز بسبب اخلالات تتعلق بشروط حفظ الصحة    وصول محمد الكوكي الى تونس فهل يكون المدرب الجديد للسي اس اس    باجة: انطلاق الاستعدادات لموسم الحصاد وسط توقعات بإنتاج متوسط نتيجة تضرّر 35 بالمائة من مساحات الحبوب بالجهة    بعد ترشّحها لانتخابات جامعة كرة القدم: انهاء مهام رئيسة الرابطة النسائية لكرة اليد    تقرير: شروط المؤسسات المالية الدولية تقوض أنظمة الأمان الاجتماعي    حليب أطفال متّهم بتدمير صحة الأطفال في الدول الفقيرة    تكريم هند صبري في مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة الخامسة    رئيس غرفة القصّابين عن أسعار علّوش العيد: ''600 دينار تجيب دندونة مش علّوش''    وزارة الدفاع الوطني تعرض أحدث إصداراتها في مجال التراث العسكري بمعرض تونس الدولي للكتاب    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس    هاليب تنسحب من بطولة مدريد المفتوحة للتنس    لأقصى استفادة.. أفضل وقت لتناول الفيتامينات خلال اليوم    في سابقة غريبة: رصد حالة إصابة بكورونا استمرت 613 يوماً..!    أولا وأخيرا..الكل ضد الكل    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطريق أو سارد أحواله شعراً: في "وضح الردى أراقص الجبال" لهادي دانيال
نشر في حقائق أون لاين يوم 13 - 05 - 2015


-1-
لحظاتٌ مُتعاقبة تُمثّل زَمَنا في طوْر حادث من حياة هادي دانيال الشعريّة بعد المنعطف الخمسينيّ ضمن ديوانه الجديد" في وضح الردى اراقص الجبال"(1)، ذلك أن التاريخ والمكان علامتان تُوَاصِلان اعتماد تذْليل القصائد بما يُساعد على فهم السياقات المعاينة للحالات الشعريّة الطارئة (2).
فهذه الّلحظات، وإنْ تعاقبت زمنا هي المتفارقة بمُختلف الحالات، كأن تتعالق بذات شاعرة واحدة وبهموم مُشتركة في اتّجاهٍ وتتباعد بِتَغايُر السياقات في اتّجاهٍ آخر، وهي إلى ذلك لحظاتٌ لحالاتٍ وحالاتٌ للحظاتٍ تتفاوت دَلالة ًوتدْلالا بمدى انكشاف المعنى الشعريّ أو التباسه حينما يتكثّف بغموض الرغبة وتردُّدها العنيف أحياناً كثيرة بين إمكان التحقّق واستحالته أو ينجلي بالألم المُمِضّ الناتج عن فقدان الأمّ الأبديّ ومُختلف حالات الارتعاب استِذْكاراً في زيارة قصيرة عابرة إلى الجزائر، أوبالتفكير في أوضاع الوطن (سوريّة)، وبالملل الناخر في الروح بعد الذي أسْفر عنه "الخريف العربي" من كوارث سياسية واجتماعات وخيبات أمل.
ولكن بأيّ دلالة مرجعيّة كبرى يمكن أُن نتمثّل هذا الزخم الهائل من الحالات ونقائصها في هذا الطور الّلاحق من تجربة الشاعر في الكتابة والوُجود؟.
-2-
عند قراءة مُجمل قصائد الديوان يَسْتَوْقفنا لفْظُ "الردى" ، تحديداً ، الوارد في العنوان والمُتكرّر داخل بعض القصائد ، وهو المختلِف مفهوماً فلسفيّا عن الموت ، إذْ هو الحدث الكارثيّ الذي يُصيب الكائن مَرَّةً واحدة ، وبه يتساوى جميعُ الكائنات وُجُوداً عند الانتهاء ، وهو قَرين المَلل ، اليأس ، الرّغبة المُعطَّلة المستحيلة تحقيقا لِكَوْنِهِ يُنذِرُ باللحظةِ الأخيرة هلاكا. أمّا الموت فهو القيمة المرجعيّة الأولى لحياة الكائن المُفرد (الإنسان).
غيْر أنّ الشاعر ، وهو الّلاعب بالكلمات ينزاح بالّلفظ عن مُعْتادِ الدلالة إلى المُختلِف عنه ، كالتدليلِ على الموت بالردى في مَواطِن التحدّي والأمل ، لا الانكسار واليأس ، أو هو التردُّد اللا-واعي عند الكتابة شِعراً بين الدلالتيْن ، بين الحافز على الوُجود مَوْتا والدافع شعوراً إلى ارتعاب اللحظة الأخيرة لتختلف بذلك معاني الردى بين وعي الوجود ذاته بالموت والتفكير بالحدّ النهائيّ للوجود ، أي النقضاء.
فكيف ، إذن ، نتعقّب ابتداءً مِن العنوان لحظات القصائد في الديوان ومُختلف سياقاتِها المُحايِثة؟.
-3-
بين وهج الرغبة وضمورها يتوقّف "أنا" الشاعر، كمن يُفكّر بالّلحظة (الآن تحديداً) في مُجمل ما انقضى مِن عُمُره وينظر حواليْه وفي اتّجاه القادم من الأيّام: طريق وُجود مُتبقّية كأنّها الصحراء وجسَد مُتقادِم مُسْتَنْزَف مُتوهّج بالرغبة:
"جَسَدٌ يتخبّط في صحراء
يتوهّج بالرغبة حتّى يُطفئه رَمْلٌ مُبْتَلّ "(ص7)
وكأنّ الرغبة، هُنا، بلغت أقصى حالات توهّجها، كنار مُتيقّظة بِفائق الاحمرار لاهبةً مُلتهِبةً ساعيةً بقوّة لا مُتناهِية إلى نفادِها الأخير بالانطفاء.
كذا هي الألفاظ – العلامات بِغامِر رَمزيّتها: "تَخَبُّط جسد وتوهّج رغبة ورمل مُبتلّ ووحل شهوة وزبد تَوْق وقفص عشق وطحالب صخر ويابسة بائسة وماء ..."
وإذَا علامات القحط يُقابلها البلل والزبد ولُزُوجة الطحالب وفائض الماء، بالإلماح العارض ابتداءً إلى عميم الارتغاب.
وللجسد، هُنا، حضوره المتحفّز اليقِظ بمُجمل القوى الحسّيّة والحدسيّة، بالظاهر والخفيّ تدليلاً على الجَسَدانيّة العميقة الحيّة:
"جسَدٌ
جسَدُ كَثافَةُ رُوحٍ ظَلْماء..."(ص8).
وما الّلحظة المكتوبة بزمَنيّتها المُعْلَنَة عند تذييل القصيدة إلّا حدوث رغبة تسعى إلى التّحقُّق بمُجملِ قوى الجسد المزدحم بالحالات ونقائضها ، "بالمرأة" يَرد ذكرُها اشتياقاً وعشقاً يُضْحِي في واقِعِ الارتغاب الحادث "سراباً في صحراء"، هِي، لاشكّ، صحراء الوجود.
-4-
وإنْ تأكّدَ الموتُ سابقا بالعِشق والرغبة في تحدّي زمَن التقادُم فللرّدى حضوره البيّن لاحقا ، كأن يرد حَدَثاً مُدَوِّياً في الروحِ صادِماً لها هُو فراق الأمّ الأبديّ الذي يعني رَمْزاً لاِنْقِضاء أَحَدِ أهمّ أسباب الوجود بالنسبة إلى الشاعر ، يُتْماً لطفل بَلَغَ عامَه السادسَ والخمسين.
وإذَا نحن أمام لحظة تفجُّع وعشق أمام أمٍّ لكائن مُفْرَدٍ إنسان كغيره مِن الكائنات البشريّة وأمّ رَمْزيّة هي المعشوقة يُوصف جمالها الأنثويّ بفائق الافتتان ، مِثلما توصف خصالها بفائض الأمومة – الرمز ، بما قد يفوق جماليّة المعنى الثوريّ الماثل في "أمّ" مكسيم غوركي أو يُقارب صُوَر الأمّهات – الرموز في الأعمال الأدبيّة والفنيّة الإنسانيّة، سالفها وحادثها.
وكأننا بفقدان الأمّ نشهد انعطافةً في طريق الشاعر المُتمَثَّلَة بالوجود والكتابة، بين ما كان ويكون وماقد يكون، إذْ لهذا الفقدان، كما أسْلفْنا، أثر عميق دامٍ في نفس الشاعر جعله يترنّح فيُضطرّ إلى الإبطاء سَيْراً مُتَّجِهاً إلى الجزائر باحِثاً له عن ظَعْن مُؤقّت ملتفتا إلى زَمَنٍ قَضّاه هُناك، وإلى أعوام الجمر والدّم عند مُقاومة الاستعمار ثمّ التطرُّف الدينيّ.
ورغم الفارق الزمنيّ بين لحظة فقدان الأمّ هناك بعيداً في سوريَّة وغياب الشاعر الاضطراريّ عن دفنها وبين زيارة الجزائر الاختياريّة فإنّ للسفر دلالته الرمزيّة العميقة، حَسَب تقديرنا، كأن يصل َبين الحَدَثَيْن بِمُحاوَلة التنفيس عن الكرب، رُبّما، وإِنِ اتَّجَه الشاعر غَرْباً لا شرقاً.
-5-
فَلِمَ اختيار الجزائر مَلاذاً مُؤقّتاً، في تقديرنا، من جحيم الألم المُمِضّ لِفقدان الأمّ الأبديّ وجحيم الوضعيّة بعيداً عن الوطن؟.
الدافع إلى هذا الاختيار غامض في ظاهر الدلالة الشعريّة. وللجزائر حضور خاصّ في ذات الشاعر، إنْ عُدْنا إلى عَدَدٍ مِن قصائده الثّمانينيّة التي بحثنا فيها سابقاً.
إلّا أنّ الجزائر الراهنة بدت للشاعر مُختلفةً عن الجزائر السابقة لِمَا ألَمَّ بها مِن كوارث التسعينات في القرن الماضي، ونتيجَةَ مَا حَلَّ بها مِن إرهاب دِينيّ وحمّامات دَم:
"عشرة أعوام مِن الزّمانِ المُلْتَحِي
زَلْزَلَ أرْضَها
وانْتَشَرَتْ رائحَةُ القَتْلى
فأفْسَدَتْ هَواءَها..."(ص20).
فاستطاعت لاحِقاً أن "تُضمّد جراحَها وتنشر رايتها خفّاقَةً على ذُرى أوراسِها".
إنّ الإجابةَ على سؤالِ اختيار الجزائر مُتَنَفَّساً للشاعر مُمْكنة إن بحثنا في خفايا الاستذكار قصد واستعادة الأمل في سوريّة جديدة ناهضة :
"ها أنذا السوريّ
مَن رُفِعَتْ بلاده على صليب الدَّجَلِ الثوريّ
وَسَرْبَلتْها السُّحُبُ السَّوْداء بالردى..."(ص22).
كذا الرحلة الجزائريّة كَمَا تبدّت واقِعاً وشِعراً، هي الماثلة في قصيدتيْن مِن الدّيوان، وقد صِيغت بأسلوب يغلب على السرد ويزخر بالمشاهد والتفاصيل ضمْن أحداث داخل مقهى ينفتحُ بزُجاجه على وسيع المكان الخارجيّ (الشارع)، وهو مقهى اعتاد الشاعر على ارتياده في سالف أعوام قضّاها الشاعر بالجزائر، وهو موقعٌ رَاهِنٌ للاستذكار والاعتبار والرؤية الحينيّة عبر الزجاج "للمرأة بثيابها السوداء" المتسوّلة حاملة طفلها الرضيع ثمّ "المرأة بثيابها البيضاء" المتسوّلة أيضا ليتمثّل في الأثناء وطنه وآلاف المُشَرَّدِين ويرتعب ويحزن:
"(هل فقّس التسوُّلُ في بلادِ "النِّيف"
أمْ أنَّ الذي أخشاهُ: سوريا الشريدة بانتظاري؟
فَشَعَرْتُ أنَّ الملْحَ غادَرَ دَمْعِيَ الجاري)"(ص28).
وإذَا المقهى الجزائريّ مكان لِتوالُدِ الحالات نتيجةَ التّفاعُل الحيّ القويّ بين الداخل والخارج، بين ذات حزينة مُتْعبة والمكان بمُختلِف أشيائه وحركاته والشارع وما يحدث من عبور متسوّلةٍ أولى فثانية ثُمّ مطر...
وكأنّ بهذا السّرد الشعريّ نتقبّل ما يُشْبه مَشْهَداً سينمائيَّاً زاخراً بالحركات والأصوات والحالات، إطاره المكانيّ هو المقهى بزجاجه الواصل والفاصل بين الداخل والخارج، وأحداثه تجْمع بين ذات فرديّة مُتفجّعة وحضور "جُلَّاس تونسيّين " يتحدّثون في السياسة وآخرين، ربّما، يُشار إليهم بالصمت السارد، كالنادل، وحركات بطيئة في الخارج وتركيز مُتَعَمَّد في الرؤية على المُتَسَوِّلَتَيْن وشبه القفر والمطر... وإذَا نحن أمام بَلَل موحش في الخارج ونار وجع في النفس بالداخل ونار نارجيلة مُصاحبة للأولى.
وما المحصّل الأخير إلّا أوجاع متكثّرة وجراحات نفس مُكتوية بما حَدَثَ ويحدث، نازفة، ثمّ صوت حبيبة غريبة هي الأخرى مغتربة في البعيد يفد إلى الشاعر عبْر الهاتف الجوّال وشُعُور حادّ بالعُزلة: "ولا أحَدَ سواي"(ص39) وتسكّع مُتعمّد بلا قَصْد ولا هَدَف في شوارعِ الجزائر شبه الخالية:
"أمضي على الطرقات فارغة
اليوم جُمعة، لا بُنوك، ولا مَخازن، كُلّها قد أغْلِقَتْ
وَحْدي إلى قَدَرِ الغريب" (ص40).
-6-
نحن، إذن، أمام وقائع جديدة في حياة الشاعر هادي دانيال ضمن ديوانه: "في وضح الردى أُراقِصُ الجبال": أمّ لم تَعُدْ هُناك ووَطَن مُهَدَّد بالهَلاك ورغبة جامِحة، وإن تقادمت، تتحدّى أحكامَ الجسد ومُعوّقات شتّى.تلكَ هِيَ أبرَز العلامات الدّالّة على المُنعطَف الخمسينيّ في حياة الشاعر وزَمَن الكتابة العامّ.
وإذا المُسَافر، وهو يتحدّى صعاب الطريق، يبحث له في كُلّ مرَّةٍ بين عذاب وآخر عن أمل جديد أوْ عن يأس مُخْصِب يُحَفِّزُهُ على الكتابة والتحدّي مَعَاً. فَبَعْدَ أن بَحَثَ لَه عَن ظَعْن مؤقَّت آخر يلتقط به الأنفاس كي يُواصِل الرحلة إلى أقصاها لمْ يَرَ بُدَّاً مِن أن يعودَ سريعاً إلى تونس، ملاذه الآخَر الأسْلَم، رُبَّما، بعد أوضاع صعبة سابقة تَمَثَّلْنا وقائعَها وسياقاتها عبر مُختلف الأوقات، إذْ في تونس يتفاقم بعد الذي حدث في الذاتِ الشاعِرة الشُّعورُ الحادّ ب"الردى"، وهُو يستخدم بَدَلاً عنه لفْظَ الموت:
"وحدي
وحدي
إنّي في تونسَ يامَوْت
تونس مُوحِشةٌ
وأنا وحدي..."(ص42).
كذا الردى ماثل بقوّة في كُلّ المواقع والأوقات، عند المُشاهَدَة والإستماع، إذْ ينام عليه الشاعر ويستيقظ إلى أن حَلَّ وعيه مَحَلّ الموت الذي طالما اتّخذه الشاعر مرجعاً للقوّة في خوْض غمار الحياة خلال أطوار التجربة السابقة في الوجود والكتابة.
هو اليأس، إذن، وقد بلغ أشدَّه فما عاد بالإمكان أن يتوقَّفَ ويستحيل إلى نقيضه . وما ملاذات الشاعر المختلفة إلّا حركات اندفاع في متاهة دورانيّة لا تُراوِح ذاتها، كأن يتّسع المكان ليضيق ويضيع ليتّسع. إلّا أنّ الشعور بالاغتراب هو ذاته، فلا أفق في هذا الطور الحادث اختلافا مع الأطوار السابقة، ولا حلّ إلاّ في موت يليق بالشاعر، هناك على أرض الوطن كي يُدْفن قرير العين بسوريّة.
الشاعر في هذا الطور يُفكّر في الموت وليس بالموت، أي يُفكّر في الردى تحديداً لا الموت إنْ فارَقْنا فلسفةً بين الّلفظيْن، إذْ بَلَغَ به اليأسُ أشدَّ حالات الانكسار إلى أن تاقت نفسُهُ إلى البوح بعميق الألم ونُشدان الاستراحة الأبديّة بعد فقدان أهمّ الجذور: طفولة الاسم بفقدان الأمّ وطفولة المعنى لما حدث ويحدث لسوريّة – الوطن، أمّ الجميع.
-7-
إنّ اليأس المتفاقم في قصائد الديوان الأولى هو وليد أحداث خاصة عصفت بالذات الشاعرة، كما أسْلفنا، فكان للردى حضور دلاليّ مكثّف بعد أن "تكسّرت النصال على النصال"، على حَدّ عبارة أبي الطيّب المتنبّي الشهيرة، وما عَاد بإمكان الذات الشاعرة المُكابَرة لإخفاء الأمل و إضمار التفجّع، فكان أقصى الألم هو البوح بأنّ تونس لم تعد ملاذاٌ، كغيرها من الأمكنة، ولا ملاذ إلّا بما تبقى من الأحضان الأولى، هناك في سوريّة الجريحة.
بهذا الحُبّ الأعلى و الأقوى تجلّت حالات أخرى منذ قصيدة "سرديّة حَمَد بن هيلينا السفاح" إلى آخر القصائد في مجموع الديوان: "فلسطين".
وإذَا الملاذ المكانِيّ الواصل والفاصل بين تونس و الجزائر يفتح على ملاذٍ كياني لطالما تردّدت معانيه في أطوار تجربة الكتابة الشعرية السابقة لهادي دانيال مُختصَرَهُ العامّ هو الو ضع العربيّ السائد ووضع فلسطين على وجه الخصوص، مقابل حلم التغيير الذي عاد ليظهر بوسائل تعبير أخرى مختلفة عن القصائد الوجدانيّة السابقة الذكر. فكأنّ الشاعر ينهض بعد انكساره العارض ويتحدّى الردى بإرادة المُكافح الرافض للاستسلام المُصِرّ على" مراقصة الجبال"، كالوارد عَلَناً في العنوان: "في وضح الردى أراقص الجبال". وإذا التحدّي الذي انتهجه الشاعر في ما تبقّى من قصائد الديوان قد صِيغ بأسلوب مباشر سياسي فاضح، كالعار النفطي الخليجيّ الفاسد يُساعد على تدمير الأوطان العربية، مثل الذي حدث للعراق ثمّ سوريّة إلى اليوم، وكالجرح السوريّ النازف ترد صُوَره في "يارا التي بدمائها فتحت طريق للحيارى"، وكالمخاض المصري في زمن التطرُّف الدينيّ برمزيّة الشاعر أحمد زرزور في "لو تمهَّلتَ قليلا يا صديقي"، وكالأمل يتحدّى به الشاعرُ موجة اليأس الغامرة في "قيروان شقائق النعمان"، أي الجيش العربيّ السوريّ (3).
فالحزن عاتٍ، واليأس شديد، وللشاعر أ ن يتحدّى ما هو عليه بالصراخ حيناً والهَمْس حيناً آخر، مثل الإخلاد إلى بعض الراحة في "لاقبّرات ولانوراس" (4).
-8-
إلّا أنّ الردى ماثِلٌ بكثافة في الأ ثناء وعند الانتهاء:
"مُشبَعاً بالأسى
أدفق الأغنيات التي
مِثل ماءٍ تدفَّقَ من صخر أرضٍ
عليها الزمان قَسَا
هكذا العمر يمضي..." (ص135 ).
وإذا التغالُب على أشدّه بين الواقع والرمز، بين اليأس والأمل ، بين الرغبة استحالةً وبين الرغبة إمكانا، باليأس الذي يحمل الصفة ونقيضها أو هو التسليم بما هو كائن ومواصلة التحدّي ب"قلب الفتى الدمشقيّ" وبغداد وفلسطين وتونس كما يرتضيها ويرتئيها الشاعرعشقاً لِوَجْهها الآخر الجميل و لذكرى استشهاد شكري بلعيد...
كذا قصائد التحدّي الأخرى في ديوان "في وضح الردى أراقص الجبال" هي مواطن الأمل رغم فائض اليأس، كأن يتلازم الرفض لما هو حادث مع العشق لتونس شكري بلعيد وفلسطين ودمشق....
وما قصائد الديوان، في مُجملها، إلّا لحظات لحالات ومواقف يُواصل بعضُها الكثير ما تردّد في الديوان السابق: "خريف من أجل حطابيّ السماء". إلّا أنّ الوجع أقسى واليأس أمَضّ والتحدّي أشدّ بعد أن أدرك الشاعرُ أنّه مهدَّد بالردى في كُلّ حين، مُرتعِب لِما حَدَث و لا يزال لوطنه ولأمّة العرب جمعاء، مُتعَب جدّاً:
"دقّات قلبي أخبرتني أنّه تَعِبُ
وبأنّ داءً قضَّ روحي
واسمه العرب" (ص197).
ولكنْ، هو التحدّي "الدونكيشوتي"(5) بلا جَدْوى ولا هدَف أمْ هو التفجّع يُخفي الأمل لزمن مختلف قادم؟
ليس للسائر في طريق الوجود إلّا أن يُواصل رحلة الكتابة إذْ لا بديل لهَا، و لِفلسطين حضورها الرمزيّ ابتداءً وانتهاءً. فهي الوجه الآخر للردى، كأن تُمثّل قيمة الموت بالحياة الجديدة الممكنة مُسْتقبلا، لأنّ فلسطين، وهي علامة الكُلّ المختصِر لحلم الشاعر، لِمَا تكثَّف، ولِمَا تبقّى مِن هذا الحلم:
"فلسطينُ بَدْءٌ وخاتِمَةٌ " (ص205).
-9-
لاشكّ أنّ طريقَ الشاعِر، بعد الذي قرأنا، متاهيّة يَكون السيرُ فيها اندِفاعاً لِحِين وَدَوَراناً لِحين آخر، اندِفاعاً وارتِداداً.
إلّا أنّ هذه الطريق، رغم صفتها المتاهيّة، لا تزال مُشرعة على المستقبل، على إمكان الرغبة، إمْكان الأمل.
كذا الإبداع، والإبداع الشعريّ تحديداً، لا يتواصل إلّا بفائضِ الرّغبة في تحدّي صراع التغالُب بين اليأس والأمل. ذلك ما عَوَّدَنا عَلَيْه هادي دانيال في قصائده السابقة، وهو المُصِرُّ على أن يكونَ ابتِداءً ومرجعاً بالشِعر وفي الشعر.
إنّ أفُقَ الكتابة لدى الشاعِر مُشْرَع على أنباض قصائد أخرى، وأفُق القراءة لدَينا مُشْرَعٌ هو الآخَر انتظاراً، وأيّ انتِظار؟.
-----------------
*الهوامش:
---------
1-هادي دانيال،"في وضح الردى أراقص الجبال"، تونس: دار بيرم للنشروالتوزيع، 2014.
2-كَأن يُشار إلى أمْكِنَة بعينها في تونس والجزائر وسوريّة. وجُلّ القصائد كَتَبَها الشاعِر في تونس، وتحديداً في المنزه التاسع بين المقهى والبيت.
3-القيروان، هُنا، بمعنى الجيش، القاعدة العسكريّة الكبرى في اللغة العربيّة.
4-عند زيارة الشاعر لقرية قربص التونسيّة، وهي قرية ساحليّة جبَليّة بَحريّة.
5-انْظُرْ قصيدة "دون كيشوت تائهاً".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.