بقطع النظر عن تفاعلات واقعة وفاة الرضع والتي بدأ الكثير في محاولة الركوب عليها لشيطنة المستشفى العمومي فإن الحدث في حد ذاته قد أوقف مسار الهروب الى الأمام في التعاطي مع قضية مفصلية .. ماذا بقي من سلطة الدولة على مرفق الصحة؟ الشروق تونس: وبمعنى أوضح فإن الدكتورة «سنية بن الشيخ» التي تعود اليوم الى إدارة دفة وزارة الصحة تعي جيدا وهي ابنة الوزارة انها دخلت في منطقة مطبات جوية عنيفة أفرزتها بالأساس سياسة «سيب الماء على البطيخ» المتواصلة منذ أكثر من ثماني سنوات وأفقدت الدولة سلطة رسم الحدود بين القطاعين العام والخاص.. وهنا جوهر قضية الصحة الذي تصبح في ضوئه كل الاشكاليات القائمة على أهميتها مجرد تفاصيل. ولعل نقطة الضوء الوحيدة القائمة اليوم وتنعش الامل في امكانية اعادة مربعات «اللوغو» الى مواضعها هي ان الوزيرة بالنيابة تحمل القبّعتين .. قبعة الطبيب الاستشفائي الجامعي الذي يقدس المستشفى العمومي وقبعة المسؤولة التي كانت لها بصمة واضحة على مسار توسيع آفاق التصدير أمام القطاع الخاص وهي التي أشرفت لسنوات عديدة على مخطط تصدير الخدمات الصحية. الخاص يأكل من العام ومن ثمة فإن الوزيرة سنية بن الشيخ قادرة على تشخيص مواضع الداء التي أفرزها بالاساس تلاشي خطوط التماس بين العام والخاص الذي اصبح «يأكل» من العام بدل أن يتوسع أساسا في اتجاه التصدير اي استقدام الأجانب للتداوي في تونس الذي تؤكد الدراسات انه يمكن ان يوفر ضعف عائدات السياحة بالعملة الصعبة. ويبدو جليا أن كثيرا من المستجدات التي أدت الى تقزيم «المستشفى العمومي» ولم تكن كلها بريئة على غرار آلة الفساد التي خلفت إبان الترويكا ترقية العديد من المسؤولين الذين ضبطوا باختلاسات ثم أزمة الصناديق الاجتماعية التي أدت الى تجويع القطاع العام... قد نزلت بردا وسلاما على القطاع الخاص الذي انغمس في تكديس الأرباح بأموال المضمون الاجتماعي بدل أن يقطع مع منطق «البزنسة» في التعاطي مع سوق العلاج الخارجية حيث وئدت كل الخطط التي وضعت قبل 2011 وأساسا المتعلقة بإحداث وكالات أسفار وشركات طيران مختصة في استقدام المرضى الأجانب من افريقيا وأوروبا وهو خلل التقى مع تراجع السوق الليبية ليفرز نهما خطيرا على السوق الداخلية. وبالنتيجة تضاعفت حصة القطاع الخاص من أموال الكنام في ظرف ثماني سنوات حيث مرت من ٪20 الى ٪40 وهو مسار سيفضي في حال تواصله الى تغول المصحات على الكنام خاصة في ضبط التعريفات وذلك بعد أن وضع وزارة الصحة تحت إبطه خاصة من خلال افتكاك السبق الذي كان ممنوحا للمستشفى العمومي في استقدام التجهيزات الطبية الحديثة. جودة الطب في الميزان كما يستفيد منحى تغول القطاع الخاص من فتور الحافز المعنوي الذي كان يشد الاطباء الى القطاع العمومي حيث يجاهد كبار الأطباء يوميا لإجراء العمليات الجراحية في خضم شحّ كثير من المستلزمات بما في ذلك «خيط الرتق» وذلك في تزامن مع تفاقم بلطجة المرضى وعائلاتهم. وبالمحصلة فإننا أمام مسار تعجيزي للقطاع العام الذي يواجه مقيّد اليدين استحقاقات ثقيلة منها اجراء أكثر من مليون عملية جراحية في العام واستقبال خمسة ملايين مريض في أقسام الاستعجالي... فيما تزداد جاذبية القطاع الخاص لأسلاك الأطباء وحتى الإطارات شبه الطبية وهو ما يضع على المحك مسائل جوهرية مثل كفاءة الطب في تونس. اذ ان تفاقم هجرة الأطباء الاستشفائيين الجامعيين سينعكس بالضرورة على جودة تكوين الأجيال الجديدة من طلبة الطب. الكنام والميز العنصري وبالمحصلة فإن عدم التعجيل بإعادة ترتيب البيت من خلال جملة من الإصلاحات لاستعادة الدور المرجعي للقطاع العام في العلاج والتكوين والبحث العلمي بما في ذلك الميز العنصري الذي يمارسه الكنام باعتماد فوترة حقيقية مع المصحات الخاصة وفوترة جزافية مع القطاع العام.. يهدد بتعميق مسار سلعنة الصحة... الأثرياء يتمتعون بإحاطة طبية راقية فيما يموت أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة قبل الوصول الى المستشفى. وفي خضم فتور المرجعيات يبدو المستشفى العمومي من وراء الستار «ساحة حرب» بين بارونات المال من المصحات الى المزودين مرورا بمصنّعي الأدوية وهو ما يجعل من إعادة رسم العلاقات مهمة أكثر من صعبة.