الإسلام دين لا ينفي الآخر على الإطلاق بل إنه يقرّ أن الاختلاف بين الناس في أشكالهم وألوانهم ومعتقداتهم هو سنة إلهية وحكمة ربانية، قال تعالى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود 118 و119) ولقد جعل الإسلام قضية الإيمان أو عدمه من الأمور المرتبطة بمشيئة الإنسان نفسه واقتناعه الداخلي، فقال سبحانه {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف 29 ) ولَفَتَ القرآنُ نظر النبي صلى الله عليه وسلّم إلى هذه الحقيقة، وبَيَّنَ له أن عليه تبليغ الدعوة فقط، وأنه لا سلطان له على تحويل الناس إلى الإسلام فقال تعالى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس99 ) وقال تعالى {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية22 ) وقال أيضا {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ } (الشورى 48) ومن ذلك يَتَّضِح أن الاسلام يُقَرِّرُ حرية الاعتقاد، ويرفض رفضًا قاطعًا إكراه أَحَدٍ على اعتناق الإسلام ويعني ذلك إعتراف ديننا الحنيف بالتَّعَدُّدِيَّة الدينية، وكما جاء ذلك تطبيقًا عمليًّا حين أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلّم الحرية الدينية في أوَّل دستور للمدينة، وذلك حين اعترف لليهود بأنهم يُشَكِّلُون مع المسلمين أُمَّةً واحدة، وأيضًا في فتح مكة حين لم يُجْبِرِ الرسول صلى الله عليه وسلّم قريشًا على اعتناق الإسلام، رغم تمكُّنه وانتصاره، ولكنه قال لهم: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ. وعلى دربه أعطى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنصارى من سكان القدس الأمان على حياتهم وكنائسهم وصلبانهم، لا يُضَارُّ أحدٌ منهم ولا يرغم بسبب دينه. ولقد اختلف أهل العلم في تأويل قول الله تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } (البقرة 256) فمنهم من يعتبرها قاعدة أساسية صريحة بالنسبة للحرية الدينية أو حرية الاعتقاد في الإسلام، ومنهم من ينكر ويعتقد أنّ الإسلام لا يقر حرية العقيدة، وإنما يأمر بالعقيدة الصالحة، ويلزم بها ويفرضها على الناس، ولا يجعل الإنسان حرا يختار ما شاء من الأديان، وحجتهم على هذا أنّ الإسلام الذي جاء لتحرير الإنسان من عبودية الأصنام على أساس التوحيد، لا يمكن أن يأذن للإنسان بالتنازل عن أساس حرّيته، والانغماس في عبوديات الأرض وأصنامها، كما أنّ الإسلام لا يعتبر التوحيد أمراً يرتبط بالسلوك الشخصي الخاصّ للإنسان، كما تراه الحضارات الغربية، بل يعتبر الإسلام التوحيد هي القاعدة الأساسية لكيانه الحضاري كلّه، قال تعالى {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} (النساء 36) ولكن لا يختلف اثنين على أنّ الإسلام كفل حرية المناقشات الدينية على أساس موضوعي بعيدا عن المهاترات أو السخرية من الآخرين، وفي ذلك يقول الله {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل 125 ) وعلى هذا الأساس للمبادئ السمحة، ينبغي أن يكون الحوار بين المسلمين وغير المسلمين، وقد وَجَّه القرآن هذه الدعوة إلى الحوار إلى أهل الكتاب فقال {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران 64) ومجادلتهم بالتي هي أحسن، فقال تعالى {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (العنكبوت 46) ومعنى هذا أن الحوار إذا لم يَصِلْ إلى نتيجة فلكلٍّ دينه الذي يقتنع به كما جاء معبرا عن ذلك قول الله تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } (الكافرون1 ... 6) .