تشهد وزارات عديدة حالة من الشلل بسبب الانتخابات. ويتساءل العاقل ما علاقة الانتخابات بهذا الوضع؟ الإجابة سهلة وهي أن أصحاب القرار في الوزارات والوزير نفسه واعضاء ديوانه ومستشاريه معنيون بتغيير مناصبهم ما بعد الانتخابات لتنقلب الأولويات من تأمين سير العمل في الوزارات الى البحث عن مناصب ما بعد الانتخابات. تونس الشروق نحن في وضع يصح فيه المثل الشعبي التونسي القائل «اعمل يا خصيب تصيب كان ما طلع في الزبدة يطلع في الحليب»، فنحن متفقون بان نظام التحالفات والمحاصصة والتجاوزات الكبيرة التي عاشتها الإدارة التونسية لا يمكن ان يؤدي سوى الى هذه النتيجة. وان عدم الاصلاح الجدّي للإدارة لجعلها مؤسسة خاضعة لسلطان القانون والتنظيم الإداري لا لسلطان المحاصصة والولاءات للأحزاب وللأشخاص لا يمكن ان يكون سوى طريق لهذا الشلل ولفتح الباب للطموحات الشخصية للأفراد بعيدا عن منطق الكفاءة بل استنادا الى منطق التحالفات والولاءات. وضع غير عادي نحن إذن نعيش نتيجة منطقية لوضع غير عادي في وزاراتنا والتي تعاقب عليها منذ الثورة وزراء كثيرون ومن كل الألوان الحزبية وحتى من لا لون له. وتعاقب عليها ايضا رؤساء دواوين من مختلف الالوان ومستشارون في دواوين الوزراء من كل الالوان الحزبية واخرون بلا ألوان ثمّ تلوّنوا. وكل من مرّ هناك كان لتقلده المنصب تداعيات على مستوى تركيبة الادارة فسمّى موالين زادهم في الترقيات الولاء والانتماء للأشخاص وللأحزاب. وقد بلغتنا معطيات بأن ما يحصل هذه الايام في الوزارات يكاد يشلّ العمل داخل تلك المؤسسات، فالوزراء ورؤساء الدواوين والمستشارون جميعهم معنيون بتغيير المنصب ما بعد الانتخابات ليصبح الزمن الحالي موسما لتأمين مرحلة ما بعد الانتخابات. هكذا انقلبت الأولويات من النظر في الملفات العاجلة الواردة على الوزارات وسط تأزم مستمر للوضع الاقتصادي والاجتماعي والصحي الى اولوية البحث عن غنائم ما بعد الانتخابات. هل شعرتم بالصدمة؟ بدأنا خلال السنوات الاخيرة نحسن التعايش مع هذا الركام المتناثر لإدارتنا العمومية والذي هو نتيجة منطقية لمسار خاطئ تعيشه الإدارة. ففي هذا الزمن التونسي الجديد والذي جاء إثر سقوط شهداء، وخروج الالاف من الاصوات الهادرة للشوارع للمطالبة بالحرية وبتحرير الادارة وتحديثها وتطويرها ونزع الجبة الحزبية عنها، تعطّلت الإدارة والتعطّل لا يتوقّف عند وصول موظف بشكل متأخر الى عمله او في ترديده لمقولة «ارجع غدوة» فتلك معارك سهلة وبسيطة يمكن كسبها بتطبيق القانون في حق المخالفين وفرض الانضباط. التعطيل الذي دمّرنا هو تحوّل مكاتب الوزراء ورؤساء دواوينهم ومستشاريهم وكبار مسؤولي مراكز القرار في الإدارات الى خلايا «تفكير» في كيفية تأمين استمرارية الاشخاص في مناصبهم وليس تأمين استمرارية العمل داخل تلك المؤسسات ايّا كان الوزير وايا كان فريقه المرافق. فمن المؤسف جدّا القول بان الانتخابات العامة المزمع تنظيمها نهاية العام الجاري بدأت تداعياتها منذ الآن في الوزارات حيث يتوقف المسؤولون المعنيون بالمغادرة وتغيير المنصب عند التفكير في تأمين مناصب ما بعد الانتخابات. فكم هي مستباحة وزاراتنا وإداراتنا. صمام الأمان مثّلت الإدارة التونسية، برغم كل ما شابها قبل الثورة من ولاء للحزب الحاكم، صمّام أمان لاستمرار الدولة ما بعد 2011. بعدها تلقّت الإدارة العمومية ضربات كبرى بدأت بحملة حول ما سُمّي بالدولة العميقة لتنهار الإدارة في النهاية وتصبح مسرحا للمحاصصة الحزبية ثمّ تتحول المنافسة لاحقا للولاءات للأشخاص وليتزايد حجم التجاوزات وصولا الى حالة الشلل المبكّر في الوزارات استعدادا للانتخابات العامة المزمع تنظيمها نهاية العام الجاري. لا اولويات سوى مناصب ما بعد الانتخابات. يقول لطفي وهو اسم مستعار لموظف في إحدى الوزارات الهامة «يحز في نفسي أن أرى مستوى متدنّيا لأداء المسؤولين في الوزارة فهم لا يباشرون عملهم صباحا بتأمين الملفات العاجلة واصدار القرارات الضرورية وتأمين السير الناجع للمؤسسة باعتبار وان بعض القرارات وبعض الملفات لا تحتمل تأجيلا في ظرف اقتصادي صعب تعيشه البلاد بل إنّهم يتسابقون حول البروز في الإعلام لتأمين الظهور اولا ثمّ «التكتيك» من أجل ضمان التواجد في المناصب ما بعد الانتخابات. مؤسف جدا ما وصلنا إليه في مؤسساتنا». ويرى لطفي ان حالة عدم الانضباط هذه فرضتها طبيعة الصراع السياسي الذي تعيشه البلاد وتوفر مناخ اللاّ محاسبة. في المحصلة وكما يقول المثل الصيني القديم «إذا وصلت الى الوجهة الخاطئة لا تلم الطريق فأنت وصلت الى الوجهة التي تستحقها» نحن وصلنا فعلا الى الوجهة التي نستحقها فالصراع السياسي، بالشكل الحالي، لم يكن تلك النعمة التي ننتظرها بقدر ما تحوّل الى نقمة دمّرت الإدارة وشلّتها والحصيلة ما نعيشه اليوم من تراكمات ومنها تعطّل الاقتصاد وتوقف نسبة النمو عند حوالي 2 بالمئة وتراكم الديون الخارجية ووقوع كوارث صادمة في الصحة وفي مختلف المجالات. كان من الضروري تحييد الإدارة والفصل بينها وبين العمل السياسي وتفعيل القوانين واحترام معايير الترقيات والتدرج الوظيفي واحترام الكفاءات. هذا ما جناه علينا صراع سياسي بلا اخلاق محركه الاول من كان الاسرع للسيطرة على الادارة والحال ان الوضع الطبيعي في هذا الصراع هو الصراع حول البرنامج الاقتصادي وحول الفكرة وحول الحريات والتقدم بالبلاد. ولا افضل من دليل على وصولنا الى الوجهة الخاطئة حالة التعطّل والشلل التي تعيشها الوزارات والتي تحولت الى رهينة لطموحات الوزراء الوافدين ورؤساء دواوينهم ومستشاريهم وكل التابعين. تونس لا تستحق هكذا صنف من السياسيين ومن الاداريين. عبد القادر اللباوي (رئيس الاتحاد التونسي للمرفق العام وحياد الإدارة) .. حلول ضرورية لإصلاح الإدارة هل لدينا خطوة جديّة وصادقة بخصوص الإصلاح الفعلي للإدارة؟ هذا السؤال يحيلني الى دراسة ميدانية حول أداء ومردودية الاعوان العموميين اجراها الاتحاد التونسي للمرفق العام وحياد الإدارة ما بين ديسمبر 2014 وديسمبر 2018 شملت عينة تتكون من 2600 مستجوب تتراوح أعمارهم بين 18 و75 سنة. وتمثل نتائج هذه الدراسة حسب تقديري أبلغ ما يمكن الإجابة به عن الاشكال المطروح فعلى مستوى الحضور والمواظبة جاء في نتائج الدراسة ان 58 بالمئة من الموظفين لا يحترمون التوقيت الإداري وان 18 بالمئة منهم متغيبون باستمرار وان معدل عدد الساعات المقضاة بالعمل يوميا لكل موظف هي 4 ساعات و34 قيقة ويتقلص هذا العدد الى 3 ساعات في اليومين الاولين من شهر رمضان. اما بخصوص مغادرة مقر العمل لغرض غير مهني لكل موظف فان 12 بالمئة يغادرون للذهابالى المقهى و26 بالمئة لاستلام أبنائهم من المدارس. اما بخصوص الرضاء عن مستوى سرعة اسداء الخدمة وجودتها فان 54 بالمئة من المستجوبين غير راضين و14 بالمئة راضين نسبيا. وفي سبر اراء ثان اجراه الاتحاد التونسي للمرفق العام وحياد الإدارة وشمل عينة تكونت من 300 موظف فان أسباب ضعف المردودية والمواظبة تعود الى غياب المساواة والشفافية في الإدارة (الإحساس بالضيم والتهميش) بنسبة 22 بالمئة والنقص في التكوين والتاطير (16 بالمئة) واستعمال المقدرات العمومية لغايات انتخابية (14 بالمئة) والمحسوبية وغياب الرقابة (12 بالمئة) والنقص في وسائل العمل (8 بالمئة). ويتضح من خلال نتائج الدراسة ان الإدارة العمومية في تونس بحاجة اكيدة الى برنامج تاهيل شامل قوامه تفعيل الفصل 15 من الدستور الذي ينص على ان «الإدارة العمومية في خدمة المواطن والصالح العام تنظم وتعمل وفق مبدإ الحياد وقواعد الشفافية والنزاهة والنجاعة». ما هو إذن تصوركم للإصلاح الحقيقي للإدارة؟ يقتضي تفعيل الفصل 15 من الدستور تكريس جملة من الضمانات القيمية والمبدئية بالإضافة الى المبادئ والقيم التقليدية للمرفق العمومي كالمساواة والاستمرارية والشرعية ويتجه في هذا الإطار اعتماد مفاهيم الحوكمة الرشيدة كمبادئ عليا للوظيفة العمومية والتي تتمثل أساسا في حياد العون العمومي وحياد المرفق العمومي والشفافية والمساءلة والمسؤولية وسهولة النفاذ الى المعلومة والحرفية واعتماد مبادئ الجدارة والكفاءة والمساواة وتكافؤ الفرص كمعايير موضوعية أساسية للتصرف في المسارات المهنية والوظيفية للاعوان العموميين والتحول من نظام المسار المهني الى نظام الأداء والجدارة.