منذر عافي ومن خلال المؤشرات والقوانين المنظمة للقطاع الثقافي، يمكن أن نلاحظ كيف أنّ الاستثمار شمل مؤسسات الانتاج والصناعات الثقافية، دون أن تتخلّى الدولة عن أدوارها أو يتمّ التفويت في مؤسسات الانتاج الثقافي. بما هيّأ الأرضية الملائمة لتطوير العمل الثقافي وحثّ المثقفين على تنويع الأنشطة الفنيّة والإبداعية، والحقيقة أنّ ضمان نجاح هذا التمشي غير يسير بل ثمّة عقبات وعوائق لا بدّ أن نتخطّاها جميعا لنسهم في بناء مسارات ثقافية متوازنة في ضوء العولمة التي تقوم على التنافسية العالية. مع ما يلزم من مواكبة للمستجدات الرقمية والمعرفية. أسباب الدفاع عن تكامل الثقافة في التنمية ضمن الإطار الموسع للصناعات الثقافية هي في المقام الأول واقعية. يتم صياغة سياسة التنمية في تونس من الناحية الاقتصادية ويتم تنفيذها من خلال الوسائل المختلفة التي تستخدمها الحكومة لإدارة سياساتها الاقتصادية: السياسة المالية والنقدية والسياسة التجارية وسياسة سوق العمل، وسياسة التنمية الإقليمية، إلخ. ، تتمثل أفضل طريقة لإدخال الثقافة في جدول أعمال التنمية في العمل على ابراز كيف يمكن للصناعات الثقافية المساهمة في التنمية المستدامة من خلال مساهمة الإنتاج الفني والنشر من أجل التمكين الاقتصادي والإثراء الثقافي والتماسك الاجتماعي للمجتمع. انّ المسألة المركزية في عملية تشجيع الاستثمار في قطاع النتاج الثقافي والصناعات الابداعية هي الاحاطة ثقافيا بكل القضايا التنموية والاقتصادية التي يعيشها مجتمعنا. ولا يمكن أن نتجاهل الأبعاد الثقافية في التنمية، مع الاشارة الى الجهود الكبيرة التي تبذل من قبل الفاعلين التربويين والمثقفين والنخب الأكاديمية، من أجل صناعة ثقافة وطنية وتحقيق انفتاح ايجابي على الثقافات الوافدة وتوفير المجالات التي تساعد الجماهير على مزيد الاقبال على المنتجات الثقافية الوطنية (السينما، المسرح، الكتاب، الفنون التشكيلية .....). لا يتمثّل الاستثمار في المجال الثقافي حينئذ في فرض نموذج إيديولوجي أو حزبي كما لا يعني ارساء أنماط من المضاربة في مجال الانتاج الثقافي، وانما هو عمل يهدف الى صياغة مشروع مجتمعي له توجّهات ثقافية. لذلك كان لزاما علينا أن ننطلق في تخطيطنا للتنمية الثقافية من حاجة التنمية المجتمعية الى الثقافة، لأنّ تحقيق التقدّم الصناعي والسيطرة على التقنية والمعلوماتية يتمان من خلال تنمية الثقافة وتشجيع مختلف مسالك البحث العلمي التطبيقي في ميادين الثقافة وفي ميادين المجتمع كافة (المؤسسات الاقتصادية، والمؤسسات السياسية، فضلا عن التخطيط المعماري والتنمية الريفية، وتطوير المنظومة التربوية). الفعل الثقافي بين الباث والمتقبّل انّ الابداع الفني والفكري والثقافي عناصر تتطلب تفاعلا بين الباث (الفاعل الثقافي) والمتقبّل وفق ضوابط متنوعة، أهمّها التحرّر من الوهم ومن التّخلّف ومن الجمود الايديولوجي، والغاية تحقيق أهداف المجتمع. وتتطلّب هذه المسألة العمل على اعلاء مكانة الفعل الثقافي ليشمل بطرق مختلفة عدّة عمليات متآلفة، وقادرة على خلق التّوازن المأمول من قبل عناصر العملية الإبداعية. وكنتيجة لذلك أصبحت العلاقة بين الثقافة والتنمية جزءا من التفكير الاستراتيجي لمؤسسات الدولة، وانتقلت الثقافة بذلك من مجرّد هيكل وسيط إلى محدّد رئيسي لمسيرة المجتمع. إنّ صناعة الثقافة والانتاج الثقافي وبناء المؤسسات الثقافية، عوامل يجب أن تخضع في تونس إلى تصوّرات جديدة، يعمل الجميع دون استثناء على ترسيخها خاصة إذا سلّمنا بأنّ قياس كفاءة المؤسسات الثقافية في تونس، يرتبط بدرجة علاقتها بالأنشطة التربوية وبقدرتها – أي المؤسسات الثقافية – على توليد الفعل الثقافي التنموي القادر على خدمة المجتمع. مثل هذا النهج لا يعني أن الأهداف الاقتصادية لها الأسبقية على الأهداف الثقافية في التقدم نحو التنمية المستدامة ثقافياً. في الواقع، من أجل الاستدامة في تطوير جميع الصناعات الثقافية، من الضروري تعزيز تطوير النشاط الفني الرئيسي الذي يشكل أحد الركائز الأساسية التي تستند إليها جميع الصناعات الأخرى. يمكن تكريس هذه الحجة من خلال تعريف الصناعات الثقافية على أنها سلسلة من "دوائر متحدة المركز" مبنية حول العناصر الرئيسية للإنتاج الفني والثقافي الأول. يحدد هذا النموذج الحاجة إلى بيئة صحية ومزدهرة للمبدعين والمنظمات الثقافية لتعزيز أكثر العمليات التجارية في القطاع الثقافي. من خلال اتباع سياسة دعم الفن والتراث، يمكن الحفاظ على السلامة الأساسية للإنتاج والاستهلاك الفني والثقافي مع تعزيز المساهمة التي يمكن أن تقدمها جميع المؤسسات الثقافية. لن تكون التنمية المستدامة نتيجة لوصفة أو أداة واحدة، بل ستكون نتيجة لمجموعة من التدابير التي سيكون لعناصرها المختلفة أهمية في تونس بالتالي، لن تكون صناعة السياسات الثقافية او التربوية من مسؤولية وزارة واحدة ، ولكنها ستتطلب تعاون العديد من الهياكل والوكالات والمؤسسات الحكومية المعنية بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. يعد التعرف على الإمكانات الاقتصادية للصناعات الثقافية وسيلة جيدة لإدخال الثقافة في جدول أعمال أوسع للتنمية الاقتصادية. في الوقت نفسه، هناك حاجة إلى الاعتراف بأهمية السياسة في تحقيق الفوائد الثقافية والاقتصادية، مما يتطلب تمييزًا واضحًا بين القيمة الاقتصادية والقيمة الثقافية في منتجات القطاع الثقافي. تماشيا مع الشرط المذكور أعلاه، سيكون أحد العناصر الأساسية لأي سياسة للتنمية المستدامة ثقافيا ، بغض النظر عن السياق السياسي ، هو الاهتمام باحتياجات المبدعين والمنظمات الثقافية و تبني موقف مجتمعي قوي تجاه الحفاظ على التراث الثقافي المادي وغير المادي.