ثماني سنوات كاملة مرت على الثورة ومازالت بعض الاطراف تلوك «لوبانة» محاربة الفساد في تونس دون ان تطرح سؤالا جوهريا بأي آلية سنحارب هذه الآفة؟ ومن هم المفسدون أساسا؟ الحرب على الفساد في تونس صارت عنوانا فضفاضا تختفي تحته عدة اجندات لا علاقة لها بالحد من الفساد او القضاء عليه تماما كحكاية محاربة الارهاب على مستوى العالم اذ الى حد الان مازال هذا الهدف النبيل يستعمل في حالات عديدة ككلمة حق اريد بها باطل فيتم تصنيف من يقاومون محتلهم بالسلاح ارهابيين ويتم حشر من يطالبون بالحرية في خانة الارهاب ويتم وسم كل من يطلب حقوقه البسيطة في العيش بكرامة وامان بانه ارهابي وطبعا تحت شعار «لاصوت يعلو على صوت المعركة» دمرت شعوب ومقدرات دول وأبيدت اجناس وهضمت حقوق. نحن في تونس استعرنا الطريقة التي تتعامل بها القوى الدولية مع الشعوب التواقة الى نيل حقوقهم في ما يتعارض مع مصالحهم فتدوسهم باعقاب احذيتها بدعوى انهم ارهابيون فنرمي أي طرف بتهمة الفساد دون حجة ولا برهان بل فقط لمصالح سياسية ضيقة او لغايات انتخابية. معركة «شعبوية» ومصالح «سياسوية» رغم ان لنا هيئات دستورية مهمتها تحديد الفاسد من الصالح وقوانين تزيح الغشاوة عن اعيينا لنميز السارق من الشريف مازال الجدل متصاعدا حول حل هذه المعضلة عير عابئين بما يسجله الاقتصاد من تراجع ومن هبوط حاد في كل المؤشرات. فمنذ ثماني سنوات والجميع في تونس يتحدث عن ضرورة محاربة الفساد وان المفسدين عبثوا بالاقتصاد فاتحاد الشغل يرفض أي اصلاحات اقتصادية بدعوى انها تحمي الفاسدين لكن دون ان يوضح كيف ولا من هم الفاسدون المستفيدون من الاصلاحات واذا تم الترفيع في الاداءات يهيج الجميع ويتطاير الرذاذ من افواههم صائحين اعيدوا اموال الشعب من الفاسدين عوض الزيادة في الجباية او في الاسعار وهو ما يزيد في حنق الشعب على فئات عديدة لا علاقة لها بالفساد فقط لأنها خاضت غمار المبادرة الخاصة وبنت مشاريع ناجحة. لنتفق اولا ان الفساد في تونس نتيجة وليس سببا .. فطوال العهد البائد استفادت فئة كانت معدمة تماما وبعضهم كان يبيع الخمر خلسة او يرابط بشباك تذاكر احد الفضاءات الرياضية ليبيع التذاكر مقابل اجرة لا تتعدى 10 دنانير في اليوم .. هؤلاء ممن كانوا يتسكعون على رصيف الحياة في تونس استفادوا من ضربة الحظ من خلال مصاهرتهم للرئيس السابق واسسوا مشاريع كبيرة واجبروا عديد رجال الاعمال على اعانتهم على بناء تلك المشاريع لان اصهار الرئيس السابق افضلهم بقي في المدرسة الابتدائية سنوات معدودات او كان يعرفها من الخارج فقط ولم يتخط بابها ابدا وطبعا استغلوا نفوذ «صهرهم» ليجبروا عديد رجال الاعمال على الدخول معهم في شراكات ثم ينقلبون عليهم لما «تستوي تلك المشاريع على سيقانها» ليحصدوا النجاح لوحدهم ويكون نصيب رجال الاعمال التعب لا غير وطبعا من سيرفض او يتمرد ستتم «هرسلته» بخبث عبر استعمال اجهزة الدولة اما من خلال ترفيع مبالغ الأداءات المتوجبة عليه او منعه من دخول أي مناقصة او افشال مشاريعه وكم من رجل اعمال عانى الكثير خلال العهد البائد لمجرد مطالبته بنصيبه المشروع من ارباح الشركات التي تم تكوينها مع «الاصهار المبجلين» وكل التونسيين عن بكرة ابيهم يعلمون ذلك علم اليقين وما كان يتحدث به الناس همسا قبل الثورة صاروا يتحدثون به علنا بعدها والتونسيون يعلمون ان التهريب «ابتدعه» الاصهار والسوق الموازية قوى اركانها اولئك الاصهار وكل الآفات التي مازال يعاني منها اقتصادنا الى حد الان كان «الاصهار» هم سببها وطبعا اعتمدوا بالقوة والاجبار على بعض رجال الاعمال واستعملوا ايضا من كانوا على شاكلتهم في الفقر و»الميزيريا» كواجهات للتغطية على اشطتهم المشبوهة وبعد الثورة هرب الاصهار ودخل آخرون منهم السجن لكن «واجهاتهم» بقيت ترتع وتشتغل لحسابها الخاص الا ان عديد الاطراف تركت تلك «الواجهات» وراحت تكيل التهم لرجال الاعمال ممن كونوا ثرواتهم قبل حتى وصول الرئيس السابق الى الحكم لانهم توارثوها عن آبائهم وجدودهم. المصالحة الاقتصادية .. الحل المؤجل الى يومنا هذا مازال الحديث عن المصالحة الاقتصادية في تونس «جريمة لا تغتفر» في عرف بعض الاحزاب خاصة منها المعارضة رغم ان المصالحة الاقتصادية ليست تدخلا في شؤون القضاء ولا تعطيلا للعدالة فالقضاء في تونس مستقل ويملك كل الاليات التي تمكنه من البت في مختلف القضايا اذ لا ننسى انه بعد الثورة تم تأسيس قطب قضائي مالي للنظر في مثل هذه القضايا لكن التجاذبات السياسية والاطماع الانتخابية سلطت ضغطا كبيرا على القضاء وعلى القطب المالي في حركات «شعبوية» لا غاية من ورائها الا افهام الشعب انهم مدافعون اشاوس عنه وان امواله لدى رجال الاعمال ونعلم جميعا ان أي مستثمر لا يضع امواله في أي مشروع الا اذا كانت الرؤية واضحة امامه فكيف سيتحفز للاستثمار والتهم تطاله في كل آن وحين وخاصة مع المواعيد الانتخابية وهو ما يحتم تنقية مناخ الاستثمار بمحاسبة المذنب وترك البريء يعمل في راحة بال فالمصالحة الاقتصادية ضرورة قصوى لاقتصاد تجمدت نسب النمو لديه تحت حاجز 2 بالمائة في حين ان النسبة المطلوبة لتحسين اوضاع البلاد هي 5 بالمائة على الاقل كما ان مساهمة القطاع الخاص في تونس لا ينكرها الا جاهل اذ ان طاقته التشغيلية اكبر من القطاع العام اذ تبلغ اكثر من مليوني عامل فاين سيذهب هؤلاء وعائلاتهم ان تواصلت هرسلة رجال الاعمال وتوجيه التهم لهم جزافا والسؤال الاهم لماذا تعطلت المصالحة الاقتصادية اذا كانت الرغبة في مقاومة الفساد تحدو الجميع فالمصالحة تعني ان يتم التوصل الى حل مع الراغبين في اقامة صلح مع الدولة والمواطنين وطي صفحة الماضي والتطلع بتفاؤل الى مستقبل افضل للبلاد والعباد اما ابقاء الوضع على حاله فلا يستفيد منهم الا المبتزون وهم اكثر خطرا من المفسدين. أي دور لمنظمة الأعراف؟ في الاشهر الاولى التي اعقبت الثورة صمتت منظمة الاعراف صمتا تاما عما تعرض له منتسبوها من اتهامات دون تمييز بين المذنب والبريء ثم تحركت باحتشام خلال اول مؤتمر لمنظمة الاعراف بعد الثورة وبعدها دخلت في حالة صمت مطبق ولم نسمع منها احتجاجا يذكر على تعطل المصالحة الاقتصادية والى سعي بعض الاطراف الى تحويل العدالة الانتقالية الى «انتقامية» بل لم تتحرك حتى للدفاع عن اصلاحات مهمة يحتاجها الاقتصاد الوطني للقطاع الخاص دور مهم فيها مثل الشراكة بينه وبين القطاع العام او خوصصة المؤسسات العمومية المفلسة والتي صارت تستنزف الكثير من اموال المجموعة الوطنية دون فائدة تذكر خاصة انه مع كل ذكر لكلمة «الخوصصة» الا وتتحرك «ماكينة» الاتهامات من جديد بدعوى التفريط في املاك الشعب لمن سرقوه وانها أي الخوصصة وجه من وجوه الفساد في حين ان الفساد في اكبر تجلياته ان نترك مؤسسة عمومية تموت وتتراجع اسهمها واثمانها عند التفويت فيها وقتها. ضرب للاستثمار وتشويه لسمعة تونس ان مواصلة الحديث عن فساد المستثمرين ووضع الجميع في سلة واحدة هو تناقض صارخ مع توجه الحكومة نحو تحفيز الاستثمار وخاصة استقطاب الاستثمارات الاجنبية التي تبقى ضرورية لانعاش الاقتصاد التونسي فهل سيتجرا مستثمر اجنبي على القدوم الى بلادنا وهو يسمع يوميا اتهامات بالسرقة والاستيلاء على مال الشعب لان تونس ستصبح في ذهنه وقتها مأوى للمجرمين والمخربين وهل ستتمكن الحكومة من الحصول على خطوط تمويل معتبرة في اطار شراكة في المشاريع وليس كقروض والعديد منا يوجه الاتهامات يمنة ويسرة فقط لمجرد الظهور امام الشعب في مظهر المدافع عنه رغم ان بعض من يدعون محاربة الفساد تم اكتشاف فساد كبير في مستودعات تابعة له تبيع «البطاطا» الجاهزة للقلي الى المطاعم والتي اظهرت المعاينات ان ما فيها من جراثيم كاف للفتك باعتى الاجسام قوة ورغم تلك الفضيحة التي اختفت بقدرة قادر يتحدث هذا المتصدي عن المصالحة الاقتصادية على انها تطبيع مع الفساد وتبييض للمفسدين وتكريس للافلات من العقاب بل لا يضيرهم ان يثيروا قضاياعفا عنها الزمن ومات احد اطرافها متناسين ان المصالحة الاقتصادية هي تكريس للديمقراطية وانجاح للثورة واستكمال للعدالة الانتقالية كما انها تنشط الاستثمار وتنعش الاقتصاد الوطني المتأزم.