قال الله سبحانه وتعالى :(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ )(النساء: 29) من خلال هذه الآية القرآنية بيّن الإسلام أنّ جمع المال مشروع إذا كان قد اكتسبه الإنسان من طرق حلال وبوسائل صالحة لا تضرّ أحدا . لكنه في المقابل سعى إلى محاربة الفساد المالي بكل طرقه ووسائله ومن أهمها الرشوة. وحقيقة الرشوة هي كلّ ما يدفعه الإنسان لمن تولَّى عملا من أعمال أو وظيفة من الوظائف ليتوصَّل به إلى ما لا يحل له وهي تأتي على صور كثيرة من أعظمها ما يُعطى لإبطال حق أو إحقاق باطل أو لظلم أحد من الناس أو دفع المال لقضاء مصلحة يجب على المسؤول عنها قضاؤها بدون هذا المقابل أو ما يؤخذ عمّا وجب على الشخص فعله. ومن صورها أيضا من رشى ليُعْطى ما ليس له أو ليدفع حقا قد لزمه أو رشى ليُفضَّل أو يُقدَّم على غيره من المستحقين. لقد حرّم الإسلام على المسلم أن يسلك طريق الرشوة بمختلف أصنافها كما حرّم على الآخر أخذها فقد عدهّا سبحانه وتعالى من أفظع الجرائم ومن أخطرها على المجتمعات فهي تمثّل صورة من صور الخيانة للمجتمع والدولة لأنها تفسد المعاملات بين الناس وتفقدهم الثقة فيما بينهم. ولم يكتف الإسلام بتجريم المرتشي وهو الذي يتسلّم الرشوة بل جعل الراشي الذي هو صاحب الحاجة شريكا له في هذا الجرم وكذلك الرائش وهو الذي يقوم بدور الوساطة بين الراشي والمرتشي لأنه يتسلم نصيبه منها فحمّله مسؤوليته. ولخطر هذه الجريمة جاءت السنة النبوية الشريفة مؤكدة النص القرآني فتوعدت الأطراف الثلاثة بغضب الله. قال النبي(لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما) رواه أحمد. ولا غرابة في أن يقف الدين من الرشوة هذا الموقف فيحرّمها ويشدد على من اشترك فيها وساعد على انتشارها لأنها ما انتشرت في مجتمع من المجتمعات إلا وانتشر الفساد والظلم والطمع وأهدرت الحقوق وضاعت مصالح الناس وشاعت فيه الأحقاد وتفشت فيه العداوة والكراهية وتدهورت الأخلاق وقطعت الأرحام. إن الارتشاء ظاهرة اجتماعية قديمة يرجع تاريخ ظهورها إلى ما قبل الإسلام وقد وقف الرسول مواقف حازمة ضد هذه الظاهرة الخبيثة وقاومها دون هوادة. روى البخاري ومسلم عن أبي حميد رضي الله عنه قال: استعمل النبي رجلا من بني الأسد يقال له (ابن اللتبية) على الصدقة فلمّا قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي فقام النبي وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : (ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لك وهذا لي؟ فهلّا جلس في بيت أبيه وأمّه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة له خوار أو شاة تيْعُر) ثم رفع يديه حتى رأينا بياض إبطيه وقال ألا هل بلّغت ألا هل بلّغت). في هذا الحديث وعيد شديد لمن يستغلّ نفوذه ويستبيح لنفسه أن يأخذ ما لا يحل له أخذه وإن أعطاه أسماء مستعارة كالهدية والوساطة والعمولة وغير ذلك فهذه خيانة للأمانة. إنّ من اغتصب أموال الناس بغير حق واستولى عليها بطريقة غير مشروعة فإنّ الله عز وجلّ يحشره يوم القيامة ومعه ما استولى عليه في الدنيا من أموال وغيرها قصد فضحه والتشنيع به ومحاسبته على ما اقترفت يداه. قال تعالى :(ومن يغلُل يأت بما غَلّ يوم القيامة ثمّ تُوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون) (آل عمران:161). إن القناعة دواء يحمي الإنسان من الطمع ومد يده إلى مال الآخرين وتقرّبه من ربه فالله طيب لا يقبل إلاّ طيبا كما لا يرفع إليه من أعمال الناس إلاّ ما كان خالصا لوجهه الكريم فهو لا يقبل دعاء المرتشين ولا يستجيب لهم. سأل سعد بن معاذ رضي الله عنه رسول الله أن يكون مجاب الدعوة فقال له: (يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة والذي نفسي بيده إنّ العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبّل منه عمل أربعين يوما أيّما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به).