حدّث سفيان بن عُيينة عن الزّهري عن عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من الأسد يُقال له ابن اللُّتْبية، قال عمرو وابن أبي عمر على الصدقة، فلمّا قدم قال: هذا لكم وهذا أُهديَ لي. قال: فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أُهدِيَ لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمّه حتّى ينظر أيُهدَى إليه أم لا، والذي نفس محمّد بيده، لا ينال أحدٌ منكم شيئا إلّا جاء يوم به يوم القيامة يحمله على عنقه: بعيرٌ له رُغاء أو بقرة لها خُوار أو شاة تَيْعر. ثمّ رفع يديه حتّى رأينا عُفرتَي إبطيه، ثمّ قال: اللهمّ هل بلّغت (مرّتين)... أرى أنّه من الأحاديث المخيفة التي لا بدّ أن يقرأ لها المؤمن الورع الذي يخاف الله تعالى ويتحوّط ليوم القيامة ألف حساب!... ففي يوم تُنسَفُ فيه الجبالُ فتكون قاعا صفصفا لا يُرى فيها عوج ولا أمت... في يوم تكون الأرض فيه منبسطة مستوية لا وادي فيها ولا رابية، لا انخفاض فيها ولا ارتفاع، لا إمكانيّة فيها للتخفّي أو التستّر، يأتي الذين تحمّلوا الأمانات بما خانوا منها على أعناقهم: بعير له رُغاء أو بقرة لها خُوار أو شاة تيْعَر!... والبعير والبقرة والشاة هي الأمتعة المتداولة يومئذ، والتي أراد الحبيب صلّى الله عليه وسلّم أن يفسّر بها لمدّعي الهديّة، وليست - والله أعلم - الوحيدة التي سوف تُحمل على الأعناق يوم القيامة!... فجنس الهديّة يضمّ أنواعا كثيرة متعدّدة، لعلّ أدناها البعير والبقرة والشاة، وإن كان في حمل البقرة والبعير ما يكبّ الحامل على وجهه ولا يقعده ولا يقيمه... وقد استحدثت اليوم أنواع كثيرة من جنس الهديّة منها الذهب والحجارة الكريمة والساعات الثمينة والأسماء والألقاب والشهرة والمصادح والقنوات التلفزيّة والعمارة والحَسَب والجاه والأسلحة والمشروبات الرّوحيّة "النّبيلة" والأسهم والمَنَعَة بغير الله تعالى، وغيرها كثير... وقد وجب على كلّ ذي عقل وخوف من الله تعالى أن يتثبّت في كلّ ما يُهدى إليه بمناسبة عمله الذي كلّف بأدائه أو بمناسبة استعماله في أيّ شأن من الشؤون... وليذكر دائما زجر الحبيب صلّى الله عليه وسلّم [أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمّه حتّى ينظر أيُهدَى إليه أم لا]... هذا وقد تعدّى النّاس اليوم الهديّة الافتراضية الكابّة لهم على وجوههم، فقضموا ما استُعْملوا فيه - دون حياء ودون حساب ودون اقتصاد - كأن يستعمل المرء سلطته يظلم بها عباد الله تعالى أو يدلّس بها على الطيّبين، فيقنعهم بضرورة البقاء على جماجمهم حماية لهم من غيره الذين لن يروا بزعمه مصلحتهم... أو يتجاوز الحدود التي بها تولّى سلطته فيغيّر القوانين ليُرسيَ التي تؤبّده في السلطة وتمنع غيره منازعتها مستعينا في ذلك بحرمان النّاس الاطّلاع على نصوص القوانين وعدم إشراكهم أصلا في صياغتها، فيكون مشرّعا للظلم وإن ادّعى الإسلام، مبيحا للدكتاتوريّة وإن ادّعى الدّيمقراطيّة، مشيعا للفساد وإن ادّعى الإصلاح، شرّيرا متوحّشا قبيحا وإن تمثّل "الملائكيّة"!... أن نتّخذ الحبيب صلّى الله عليه وسلّم قُدوة، فذلك مساعد على النّظر في أحوالنا ومقارنتها بالأحوال التي كان عليها المجتمع المدني الحضاري العادل الأوّل هناك في المدينة المنوّرة زمنه صلّى الله عليه وسلّم وزمن القرون الصالحة التي تلت قرنه فنحاول به صلّى الله عليه وسلّم وبمن والاه الاقتداء، وأمّا أن نتّخذ لنا أصناما نُكرمهم من أجل انتسابهم للإسلام دون تثبّت في خفايا أعمالهم التي لا تخفى ودون نظر في مآلات "اجتهاداتهم" التي أقصونا عن المشاركة فيها، فذلك عين الحمق وتأكيد البلاهة وتحقيق عدم الاقتداء... والله من وراء القصد...
عبدالحميد العدّاسي، كوبنهاغن يوم 21 فبراير / فيفري 2016