تونس «الشروق» ان المتأمل في المشهد التونسي بجميع تفرعاته يرى تحولات غير مسبوقة في اتجاه دحض ماهو جيد واتباع ماهو سيئ حتى ان الاخصائيين يسجلون يوميا في دراساتهم المتنوعة تراجعا كبيرا في القيم باختلاف انواعها ومجالاتها، اختلط الحابل بالنابل والمبرم بالسحيل كما يقول التوحيدي وفقد مجتمعنا بوصلته وانتهى عهد الشخص الرمز وانتفت المرجعيات لصالح التعلق بالسراب وتحول الفساد الى قاعدة وهو مايدفعنا الى التساؤل عن الاسباب في ظل وجود ترسانة من القوانين التي لاتطبق على ارض الواقع. تفكك اسري وغياب القدوة يقول الدكتور حمزة ضي خبير دولي في العلاقات الانسانية والاسرية:» ان ما نعيشه اليوم في مجتمعنا من أزمات وتحديات ليس في جميع الحالات أسبابها ما هو مرتبط بغياب القوانين أو عدم تفعيلها، وإنما الأزمة تتعدى هذا المعطى بكثير وبعمق لتصبح أزمة قيم داخل المجتمع الواحد. والأسباب الحقيقية لإشكالية القيم ستظل دائما حاضرة ومرتبطة بشكل كبير أولا بالأسرة مرورا بمكونات المجتمع ووصولا الى مؤسسات الدولة. وتحليلا لهذا الإشكال نجد أن المعاناة تبدأ من سيادة العشوائية في التصرفات والسلوكيات داخل الأسرة وذلك لكثرة وجود حالات تفكك أسري بنوعيه المباشر أو غير المباشر وبالتالي عدم وجود القدوة لدى الأبناء مما يؤدي إلى اللجوء إلى الشارع وبالتالي ترسيخ العادات والأخلاق السيئة وبالنظر إلى أن الإنسان إبن بيئته، فإن كانت البيئة سيئة، فإن الإنسان سيكون كذلك كما لا ننسى أن ما نشهده من صعوبة وترد في الوضع الاقتصادي والاجتماعي يعتبر من الأسباب الحقيقية في تفاقم هذه الأزمة لما لهذه المعطيات من تأثير على الفرد وسلوكه تجاه نفسه أو تجاه غيره من حيث فقدان الثقة في الطرف الآخر وما تسببه من نقمة وكراهية وأنانية مفرطة في التعامل مع الغير. وأكد ان هذا التحول في السلوكيات أدى إلى كوارث اجتماعية أصبح التعايش والعيش معها من المستحيل،، وبتكرر هذه السلوكيات بين الأفراد وجدنا أنفسنا بين أحضان نمط قيمي متسم بالانفلات والعنف والحقد وعدم الشعور بالامان الاقتصادي والاجتماعي ونصل إلى دور الهيئات السياسية في هذه الانفلاتات الأخلاقية والقيمية في المجتمع عامة ولفئة الشباب خاصة حيث الانشغال بالصراعات في ما بينهم أدى إلى التغافل عن دورهم في تأطير وتوعية المجتمع عبر هيئاتهم ومؤسساتهم وحول الحلول المقترحة لهذه الأزمة شدد على دور الأسرة أولا، من خلال دور الآباء والأمهات معا في التواصل الإيجابي وإرساء قيمة الحوار بين الأبناء وقيمة تحمل المسؤولية والصدق والصبر واحترام الغير وكذلك دور المجتمع المدني من خلال التوعية والتحسيس على تبعات وخطورة هذه السلوكيات على المجتمع عامة والفرد خاصة ولا ننسى دور الدولة ومؤسساتها من خلال نظام تعليمي يؤسس قيم التحضر وتقبل الآخر والطموح والنجاح لما فيه مصلحة الفرد والمجتمع ككل ونظام فكري وثقافي متوازن إضافة إلى تفعيل القوانين لردع كل متجاوز للمنظومة القيمية المجتمعية المرسومة. وأد القيم ونسف القدوة إن ما يشهده المجتمع التونسي من مظاهر سلوكية فردية كانت أو جماعية تشكلت معظمها من فرط أنانية خاصة ما بعد سقوط النظام السابق هذا ماصرح به الاستاذ والخبير في الشأن التربوي كريم العجمي مضيفا ان هذا يتطلب منا الوقوف عند هذه الظواهر قصد تفكيكها لفهم أسبابها والتنبيه إلى خطورة مخرجاتها على الفرد والمجموعة ومصير كل الوطن المتربص بكل صروحه من كل حدب وصوب. ويقول: «في تقديري الشخصي إن المواطن بشكل عام كل وفق إمكانياته وموقعه هو المسؤول المباشر عن تلاشي القيم التي تحقق الاجتماعي فينا من حيث الاحترام والسلام والعدل والحق والواجب والحرية والمساواة ونكران الذات والبر بموروث منجز الأمجاد والحفاظ على أمانة الأجيال، إلا أن المسؤولية المباشرة عن هذا الانحراف تتحملها الطبقة السياسية من حيث آليات صراعها على السلطة ومعجم خطابها والسلط التنفيذية والقضائية والتشريعية التي برهنت طيلة سنوات على تيهها وعجزها عن تطبيق القانون نتيجة الصراعات السياسية والإيديولوجية والاجتماعية... مما أدى إلى ترسيخ ثقافة اللاعقاب... وأصبحت السيادة إما حزبية أو قطاعية نسفا لكل القيم ولمفهوم الدولة والسؤال الذي يفرض نفسه تونس إلى أين في خضم كل هذه التجاذبات تيها وإخفاقا؟ ومن يعيد البوصلة فينا ويرد الاعتبار إلى قيمة العمل والعلم والبر ونكران الذات فينا؟ علنا ننقذ ما تبقي من صروح الوطن. محمد بالراشد أخصائي في علم الاجتماع عوامل مختلفة منها غياب القدوة قال محمد بالراشد أخصائي في علم الاجتماع في حديثه ل«الشروق» انه لا يوجد مجتمع بشري دون منظومة قيم والقيم التي تبني المواقف وتوجّه السلوكيات الفرديّة كما الجماعية، ولذلك فهي تعتبر معيارا للسلوك. وأضاف أنه نتيجة لأهميتها في بناء المواقف وتوجيه السلوك تحظى القيم باهتمام خاص. حيث تعمل المجتمعات على ترسيخ منظومتها القيمية لدى الناشئة ومن خلال عمليّة التنشئة الاجتماعيّة، يتمّ تكريس القيم وترسيخها لدى الناشئة. وأوضح أن مهمّة التنشئة الاجتماعيّة توكل إلى المؤسّسات الاجتماعيّة المعنية بالتنشئة وفي طليعتها الأسرة والمدرسة والمؤسسة الدينيّة (المسجد/ الجمعيات الدينية/ الكنيسة/ الطرق الصوفية/ مدارس الرهبان...) والمؤسسة الايديولوجية. وأشار الى أنه في خضم التحولات التي يعيشها المجتمع التونسي لا يبدو حال القيم على ما يرام والدليل قيمة العمل التي فقدت. فالعمل قبل أن يكون نشاطا ذهنيا أو بدنيا، فإنه قيمة. وطالما فقدت تلك القيمة بريقها، فإن الحرص على العمل وعلى إتقانه سيتراجع. وذكر في نفس السياق أن قيمة العمل ليست إلا مثالا عن قيم تراجعت من قبيل التضامن والإيثار ومن قبيل احترام القانون ...الخ. أسباب وعوامل أرجع محدثنا تراجع أهميّة القيم إلى عوامل مختلفة منها: - التحوّلات السريعة التي يعيش على وقعها المجتمع التونسي وشأنه في ذلك شأن مجتمعات كثيرة اليوم. - العولمة وما صاحبها من نزعات تنشد توحيد القيم. بل أحيانا فرض قيم مستفيدة من ثورة وسائط الإعلام وخاصة تكنولوجيا المعلومات والاتصال. لقد رافق تطوّر تكنولوجيا المعلومات والاتّصال كثافة في القيم الوافدة بشكل لا نظير له في تاريخ البشرية، حتى أنها صارت أمام نمط حياة واحد يروّج لمنظومة قيميّة واحدة. - غياب القدوة، فما معنى أن يكون الخطاب النظري الموجه الى صغار السنّ مفارقا للسلوكيات؟ بمعنى أن الخطاب حول الصدق وحول الأمانة وحول الإخلاص والالتزام بالواجب سيفقد قيمته لدى الأطفال عندما يرون ممارسات يوميّة مناقضة لذلك الخطاب ومنتشرة بين الناس مثل الرشوة والمحسوبية والغش وعدم أداء الواجب والتحايل على القانون. كما أن تبني السياسيين خطابا عنيفا تجاه بعضهم البعض (تبادل التهم والشتائم) يفقد قيمة الاختلاف أي معنى وينفر الناشئة من الممارسة السياسيّة. - تناقض أدوار مؤسسات التنشئة الاجتماعيّة. فمن المؤكّد اليوم أن تصدّعا كبيرا حصل بين مؤسّسات التنشئة الاجتماعيّة فلم تعد قيم المدرسة هي ذاتها قيم الشارع. بل أحيانا تتضارب قيم المدرسة مع قيم الاسرة ومع القيم التي تروّج لها وسائل الإعلام وتكنولوجيا المعلومات والاتّصال. لقد أثر هذا التصدّع سلبا في علاقة الفرد بمنظومته القيميّة. بمعنى أن التضارب بين مؤسّسات التنشئة الاجتماعيّة أفرز ارتباكا لدى الأفراد. يبدو اليوم أمام المجتمع التونسي تحديات كبرى من بينها ذلك التحدّي المتّصل بالقيم، وبتوطين منظمة قيميّة تنسجم مع تطلّعات التونسيّين لبناء مجتمع ديمقراطي تعدّدي وفي الآن ذاته مجتمع يقدس العمل ويؤمن بالمبادرة والإبداع. ويوفّر فضاء للمواطنة بمختلف تجلياتها القيميّة (المشاركة / التطوّع / التضامن/ المساهمة في وضع القوانين بطريقة ديمقراطية واحترامها...). كسب هذا الرهان ليس بالهيّن.فهو يحتاج إلى مقاربة جديدة لبناء القيم تقطع مع التلقين والفرض وتجنح إلى الإقناع والبناء المشترك، الذي تساهم فيه كلّ مؤسّسات التنشئة الاجتماعيّة ومختلف الأطراف الفاعلة.