لم يكن من عادة الأسر الفلاحية الفقيرة ان ترسل أبناءها إلى المدارس. ففي ذلك الزمان كان على الطفل أن ينشأ في قريته ويتعلم أصول الفلاحة كي يساعد ذويه ويكتسب المهنة التي يمكن أن يكسب منها عيشة ولم تكن المدارس نفسها كثيرة ولا منتشرة في تلك المناطق الزراعية. وكان آلاف الأطفال الذين كان يمكن أن يخرج منهم رجال علم وفكر وفن وسياسة، يتحولون في تلك السنوات إلى مجرد أرقام في جيش الفلاحين الفقراء الأميين المنسيين دائما من تفكير وتخطيط رجال الدولة الرجعية في العاصمة البعيدة. ولقد كانت كل الظروف وعوامل البيئة المحيطة كفيلة بأن تجعل من صدام حسين الطفل اليتيم ربما أكثر من غيره واحدا من ذلك الجيل المنسي الضائع وان تمتص الأرض الظمأى وما يحيط بها من صحراء عاتية رحيق حياته كلها وتخمد شعلة ذكائه لولا أن مقاومة الظروف والمحاولة الدؤوبة لتجاوزها باستمرار كانت بعض فضائله. في عام 1947 وكان حينذاك في العاشرة من عمره يعيش مع عمه الحاج إبراهيم في قرية تدعى (الشويش)، زارهم طفل في مثل عمره تقريبا وكان قريبا لأمه – ابن عمها – وكانت تلك الزيارة بما ترتب عليها علامة أساسية فارقة في تطور حياته. ففي الباحة الخارجية أمام البيت الطيني الصغير جلس الطفلان الصغيران يتسامران، وإذا بصدام يسمع من رفيقه حديثا مختلفا عما اعتاد أن يسمعه من رفاقه الآخرين. قال رفيقه الطفل إنه يذهب إلى المدرسة بانتظام وإنه في الصف الثاني الابتدائي، ويستطيع الآن أن يقرأ ويكتب وبإصبعه الصغير راح يكتب فوق التراب اسمه ثم ينظر إليه ويشرح له حروف الأبجدية ويكتب أمامه الأعداد. سرح الطفل صدام وغابت عيناه في الأفق البعيد، إن عالما غريبا ساحرا ومدهشا كان يتفتح في وعيه لأول مرة. في تلك اللحظة، فكّر أن يذهب هو أيضا إلى المدرسة ويتعلم كيف يكتب اسمه؟ وكيف يحفظ جدول الضرب ؟ ويعرف قواعد الحساب وعقد حاجباه وبدت في عينيه نظرة تصميم حادة لم يكن بوسع رفيقه أن يفهمها. في اليوم التالي قرر أن يعرض الأمر على أسرته، وكان طبيعيا أن يواجه الرفض وبدا له أن لكل يوم يمر ثمنا لا يستطيع أن يعوضه. لقد فتحت المدارس أبوابها وبدأ التسجيل للعام الدراسي وخياله كله يتركز في تلك المقاعد التي يجلس عليها التلاميذ ليتعلموا. وعرض الأمر على أهله أن يذهب إلى بيت خاله في تكريت الحاج خيرالله، ولكن هذا العرض قوبل مثل سابقه بالرفض الحازم. غير أن هذا الرفض الزاجر لم يثنه عن قراره واستقر رأيه على أن يوقف التفاوض مع أهله وأن ينهج أسلوبا اخر. عندما هبط الليل وأرخى سدوله، انسل الطفل الصغير ذو العشرة أعوام من فراشه وحمل متاعه القليل على كتفه وخرج ليواجه قدره الجديد وحيدا كما هو شأنه دائما وسلك طريقه نحو منطقة (الفتحة) التي يعرف أن له بها بعض أولاد عمه الذين يعملون حراسا في إحدى الشركات. هناك قال في نفسه سيكونون دليلي لمعرفة الطريق إلى تكريت وكانت الفتحة تبعد عن قريته مسيرة ساعتين سيرا على الأقدام. وقد وصلها قبل أن تبزغ الشمس من وراء الأفق. ودهش أقاربه، عندما دق في تلك الساعة المبكرة بابهم. ما الذي جاء بك يا صدام؟ ماذا جرى؟ قال لهم بعزم وتصميم أنه قرر أن يلتحق بالمدرسة وأهله لا يريدون، ولذلك فإنه يريد الذهاب إلى تكريت، حيث يستطيع هناك أن يحقق هدفه وذكرهم بأنهم هم أنفسهم كانوا من قبل في المدرسة وأن أهلهم أجبروهم على أن يوقفوا مسيرتهم. ولم يعترض أقاربه، بل شجعوه وصحبوه إلى موقف السيارات وأركبوه سيارة أجرة تأخذه إلى منتصف الطريق وأوصوا السائق أن يركبه سيارة أخرى توصله إلى تكريت ولم ينس أقاربه أن يزودوه بعدة الأمن في الطريق. لقد امتلك في تلك اللحظة، أول مسدّس في حياته.، ومنذ تلك اللحظة، بدأت حربه الحقيقيّة، في حياة مليئة بالدّم والرّصاص. (يتبع)