عندما بلغ تكريت كان يعرف الطريق إلى بيت خاله. حيث شاهد انتقالهم من دار قديمة إلى هذه الدار قبل أربع سنوات عندما كان عمره ست سنوات. وهكذا اهتدى إلى بيت خاله دون دليل يقوده إلى هناك. ووجد الباب مفتوحا. فدخل واستقبلته الدهشة في عيونهم مرة أخرى. ما الذي جاء بك يا صدام؟ وكيف جئت؟ومن الذي أتى بك؟ وماذا جرى؟ و ما هي القصة؟ ببساطة وبهدوء، وكأنه يدلي بقرار نهائي لا يُردّ، قال لهم: أريد أن أتعلم. لم يجد الرفض منتصبا أمامه هذه المرة على العكس لقي قراره ترحيبا وتشجيعا. حسنا فعلت يا صدام، إن أهلك مخطئون. لابدّ لك أن تتعلم غدا. ولابد أن تسجل اسمك في صفوف الدارسين وتداوم في مدرستك. كانت العبارات التي يسمعها جديدة في أذنيه.. إنّ فصلا جديدا من حياته قد بدأ. والحق أن التأثير الخاص لخاله قد لعب دورا متميزا في مستقبله. كان خاله أكبر رجل في العائلة. وكان لحسن حظه متعلما. تخرج معلّما ثم دخل الكلية العسكرية بعد ذلك. وتخرج من كلية الضباط. وإن لم يستمرّ في عمله طويلا فلقد، اعتقل في ثورة رشيد عالي الكيلاني وقضى في غياهب السجن خمس سنوات. ولذلك فإنه مثل أفراد أسرته جميعا، كان ينظر إليه دائما كمثل أعلى جدير بأن يُحتذى. وهو يذكر الآن كيف كان يسأل أمه حين كان يعيش في كنفها : أين خالي؟ولماذا لا نراه؟ وكانت تحكي له أين راح؟ ولماذا راح؟ ثم تعلّمه أوّل دروس تعلمها في الوطنية والحقد على السلطة الرجعية العميلة، والحقد على الاستعمار الانقليزي الذي كان جنوده يدنسون تراب الوطن حينذاك. وكثيرا ما كانت تمتد آفاق هذه الدروس إلى الماضي. حيث تحكي له كيف كان أجداده القدامى يقاومون في تلك المناطق الفلاحية سطوة الاحتلال التركي وظلمه. لقد قدّمت أسرته في صراعها ضد الأتراك كوكبة من الشهداء. وكان منهم والد جده لأمه وإثنان من إخوته معه. وكان أحدهما في الرابعة عشر من عمره والثاني في السادسة عشر يوم اصطدم بهم الأتراك وقتلوهم جميعا. وقتلوا والد جده وإخوة جده الإثنين. ولم تتوقف معاركهم ضد الأتراك. بل لقد أصبح للمعارك ضد الأتراك بعد الحادثة المروعة معنى آخر مضاف هو الأخذ بثأر العائلة والعشيرة. وفي إحدى المناسبات قتلوا ثلة من الضباط والجنود الأتراك. وكان في مقدمة من تصدى للأتراك في هذه المعركة جده لأمه طلفاح. وهكذا هجمت عليهم جحافل الأتراك. وحرقت بيوتهم جميعا. ففروا إلى الجبال في شمال العراق. وبعد فترة عادوا من جديد ليواصلوا نضالهم ومقاومتهم. لقد كانت أقاصيص مهده وطفولته هي أقاصيص النضال والمقاومة، وحكايات السجون والمعتقلات. ولسوف تتبلور كل هذه الأقاصيص والحكايات لتشكل في وعيه المبكر معاني أساسية متوهجة ، تقوده على مدى حياته كلها. وتمثّل له مبادئ راسخة لا تتزعزع. وقد تشكّلت هذه المبادئ في الحقد على الاستعمار والحقد بنفس الدرجة على السلطة الرجعية الغاشمة والمقاومة من أجل تحرر الوطن و النضال من أجل تحرير المواطن من الفقر والإذلال. و لرّبما انعكست هذه المبادئ في ما بعد في ديبلوماسية العراق زمن حكم صدام. في تكريت تابع دراسته الابتدائية، ولما انتقل خاله إلى بغداد بقي وحده في تكريت في دار خاله مدة سنتين لمتابعة الدراسة. ثم انتقل بعد ذلك إلى بغداد بعد أن أكمل السنة السادسة ابتدائي و السنة الأولى في مرحلة «المتوسط».ثمّ التحق بمدرسة الكرخ الثانوية. وكانت تلك المدرسة واحدة من القلاع الوطنية في العراق كله. ولسوف تكون على الدوام مخزن الذخيرة البشرية التي ستتفجر ضد الاحتلال وضد عملائه وأذنابه. وسيجد في إطارها الملتهب ذلك الشاب الصغير الذي تنتفض عروقه وطنية عارمة تدفعه إلى الاستعداد في كل لحظة للتضحية بحياته نفسها من أجل بلاده، البيئة المثالية لتفتح مشاعره وأفكاره وتوجهاته السياسية ونزعاته القيادية الكامنة. ولقد كانت اللحظة التاريخية حبلى بكل إمكانيات التغيير على صعيد الوطن الصغير والوطن الكبير. وكان صدام حسين يومها في الصف الرابع الثانوي يتابع دراسته بتقدم ونجاح غير أن بغداد حينذاك كانت تغلي فوق فوهة بركان والأقدار كانت تتجمع في الأفق وتضمر له دورا آخر. (يتبع)