لم يمض بعدها أكثر من أشهر قلائل، حتى كان صدام حسين منخرطا في حزب البعث العربي الاشتراكي. في تلك المرحلة كان العراق كله ينتظر في أيّ لحظة انفجار البركان الذي ما ينفك يطلق حممه. وفي كواليس الأحزاب السياسية كانت معالم جبهة الاتحاد الوطني قد بدأت في التشكيل منذ فيفري عام 1957 وأيامها كان العراق يضم خمسة أحزاب سياسية هي: حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي العراقي وحزب الاستقلال و الحزب الوطني الديمقراطي والحزب الديمقراطي الكردستاني. ومن تلك الأحزاب الخمسة تشكلت الجبهة. فما الذي كانت تسعى إليه تلك الجبهة من أهداف؟ كانت تلك الأهداف، هي التي أجمعت كل القوى الوطنية وجماهير الشعب على حدها الأدنى والتي يمكن تلخيصها بالتحرر الكامل من النفوذ الاستعماري وبناء اقتصاد وطني مستقل ومزدهر وتقدمي وبتصفية الإقطاع تصفية كاملة وبإبعاد الرأسمالية الاحتكارية المرتبطة بالاستعمار عن الحكم ومنعها من اضطهاد الطبقة العاملة وإخضاعها للتخطيط الوطني التقدمي وبتحقيق صيغة ديمقراطية ملائمة للظروف الوطنية وبإرساء الوحدة الوطنية بين العرب والأكراد على أسس ديمقراطية راسخة وببناء جيش قوي مقاتل وإعداده لمعركة فلسطين والأجزاء السليبة الأخرى من الوطن العربي، وبالإسهام الفعال في النضال العربي ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية وبتحقيق صيغة وحدوية عملية وفعالة مع الأقطار العربية المتحررة. في جويلية عام 1958 انفجر البركان وسُمع دويّه في أركان الأرض. انتصار تاريخي عربيا قد تحقق من خلال الوحدة النضالية بين الشعب العراقي عبر أحزابه السياسية وجيشه الوطني وسقط النظام الرجعي العميل وعلق الشعب رؤوسه على أعواد المشانق واندكّ صرح آخر من صروح الاستعمار في المنطقة العربية. لقد سقط حلف بغداد في بغداد، و ودّعت معه القوى الاستعماريّة عراقا كان بوابة للعمالة. وبدا أن المشرق العربي يوشك أن يصير في مراكزه الأساسية أرضا محررة. يومها قرر جمال عبد الناصر وكان في زيارة ليوغسلافيا أن يعود فورا إلى القاهرة كان الحدث التاريخي الضخم قد هزه هزا عميقا، فها هو النظام الذي عاداه وجعل من أرضه قاعدة للهجوم على مصر، يسقط تحت أقدام الجماهير العربية، ولكن الرئيس تيتو نصحه بألاّ يتوجه مباشرة من يوغسلافيا إلى مصر عن طريق البحر كما جاء. فالأساطيل الاستعمارية تتحرك بعنف في مياه البحر الأبيض المتوسط، وقد استفزتها الأحداث. اتجه عبد الناصر إلى موسكو ومن موسكو طار على عجل إلى القاهرة. وفي عاصمة الجمهورية العربية المتحدة أعلن قائدها بقوة وحزم وبنشوة تاريخية عارمة أن أيّ اعتداء على الجمهورية العراقية هو اعتداء على الجمهورية العربية المتحدة. كان العرب أيامها يعيشون أمجد اللحظات في تاريخهم المعاصر، فبعد أن تحقق حلم الوحدة بين مصر وسوريا في فيفري 1958، بزخم جماهيري هائل، ها هي نجمة ساطعة جديدة توشك أن تنضاف إلى علم الدولة الوحدوية الجديدة. ولم تكن الوحدة في مفهومها الطبيعي والمنطقي تبدو عصية على التحقق بالنسبة لأي قطر قررت قواه الحية المناضلة أن تحارب الاستعمار حتى النهاية. كانت الوحدة وجها آخر من وجوه التحرر وكان النضال التحرري ينطوي في جوهره على نضال وحدوي. وحين تفجرت ثورة جويلية 1958 كانت قيادتها تعكس إلى حد كبير صورة الوضع الذي كانت عليه الحركة القومية العربية من ناحية وشكل الواقع الخاص للحركة السياسية الوطنية داخل العراق من ناحية أخرى. فالطابع القومي الذي وسم الثورة في بداياتها لم يكن مصدره ثقل الاتجاه القومي في حركة النضال السياسي داخل العراق فحسب، وإنما كان يستمدّ روحه ومنطقه واندفاعه من المدّ القومي على صعيد الساحة العربية بأجمعها والذي جعل من نضال كل قطر على حدة حلقة في النضال الكلي للوطن العربي بأسره.