كمكاسب لثورة 14 جانفي انضافت إلى الساحة السياسية أحزاب جديدة حصلت بعد على تأشيرة العمل القانونية، من بين هذه الأحزاب «حركة البعث» التي تقدمت بمطلبها إلى الجهات الإدارية يوم 20 جانفي الفارط وتسلمت تأشيرة العمل القانوني بعد يومين فقط (أي يوم 22 جانفي). «الشروق» التقت السيد محمد البوصيري العكرمي الكاتب العام ل«حركة البعث» وأجرت معه الحديث التالي: ٭ كيف تقدمون حركة البعث من حيث البناء التنظيمي والمرجعية الايديولوجية؟ العروبة السياسية في تونس ظهرت منذ الاربعينات كفكرة أصيلة أصالة عروبة القطر وتجذرها في نفوس أبناء شعبنا العربي في تونس منذ ان صاغ التاريخ هويته العربية الاسلامية، هي عروبة حضارية وسياسية تنبذ التعصب والعرقية منذ ان تلقحت بفكر البعث العربي الاشتراكي التحرري والانساني قبل استقلال القطر ، لذلك كانت ولادة البعث في تونس عبارة عن قوة دفع جديدة حدثت في صلب الوطنية التونسية زمن الكفاح ضد الاستعمار مثلما كانت امتدادا لفكرة القومية العربية استمرارا متطورا لحركة النهضة العربية والتي عمت أرجاء الوطن العربي منذ اواسط القرن التاسع عشر. ولدت فكرة البعث اذن كفكرة مناضلة في صلب الوطنية التونسية والفكرة القومية العربية من مشروع يجسد تطلعات الامة العربية والشعب العربي في تونس جزء لا يتجزأ منها. في ضوء هذه الرؤية وبهذا الوعي جاءت منطلقات البعث التي تؤكد على جملة من المبادئ والاهداف تم تقسيمها الى قسمين: الأول: يتصل بالاهداف الاستراتيجية البعيدة المدى وتتمثل في وضع معطيات الفكر الاستراتيجي العلمي والسياسي في خدمة تونس المستقبل ضمن محيطها الحضاري وذلك بالعمل من أجل بناء الوحدة العربية على أسس الديمقراطية والاشتراكية وبمضمون تحرري يعادي الامبريالية والصهيونية ومرتكزاتهما تحقيقا لطموحات ومصالح أوسع الجماهير الكادحة وفي مقدمتها الفلاحون والعمال مع التأكيد على الترابط الجدلي بين الوحدة والحرية والاشتراكية. الثاني: وتتصل بالأهداف القريبة وبحماية المكتسبات وبالقضايا الحيوية والمصيرية والتي تتمثل في : صون استقلالية البلاد والحفاظ على المصالح العليا للشعب والوطن ومكتسبات الدولة المدنية، تعميق الوعي بالهوية العربية الاسلامية للبلاد واغناء تفتحها الفكري وتدعيم مبادئ التضامن والتسامح المجتمعي بنبذ كل أشكال التعصب الفكري والمفاهيم العرقية، العمل على احترام حقوق الانسان وتعميق مبادئ الديمقراطية والتعددية السياسية من أجل توطيد أركان دولة القانون والمؤسسات، نبذ كل أشكال العنف والإقصاء في التعامل المدني والسياسي من خلال ترسيخ السلوك الديمقراطي الحضاري، إرساء اقتصاد وطني مستقل ومتوازن بين الجهات مع التأكيد على المسألة الفلاحية وعلى تدعيم القطاع العام وتوسيعه باتجاه اضطلاعه بالدور الأساسي في النشاط الاقتصادي وتنظيم نشاط القطاع الخاص الوطني وضبط مجالاته طبقا لحاجات الشعب وامكانات البلاد، نشر ثقافة وطنية مستقلة تعزز ثقة المواطن التونسي بنفسه وبوطنه وتنمي قدراته على الانتاج والابداع، تدعيم ديمقراطية التعليم وتعريبه والسعي إلى جعله الزاميا ومجانيا طبقا لمقتضيات التنمية، النضال من أجل وحدة المغرب العربي على أسس ديمقراطية وشعبية باعتبارها خطوة نحو الوحدة الشاملة للأمة العربية تحقيقا لمستلزمات التنمية المنشودة، الدفاع عن قضايا وحقوق الامة العربية والعمل على تحرير فلسطين والعراق ومساندة أي نضال وطني من أجل التحرر ومقاومة الاستعمار والعولمة. ٭ هذا البعد التاريخي ، لاشك انه راكم نضالات وتضحيات في ظل حكم الرئيسين بورقيبة وبن علي؟ لقد وجد عدد من المواطنين انفسهم في البعث وفيه وجدوا الحلول للمسائل الوطنية والقومية، فالمناضل المرحوم يوسف الرويسي من الذين حضروا مؤتمر تأسيس البعث واكتشف فيه عدد من الشبان منذ أواخر الاربعينات وخلال الخمسينات فكرا ملهما وطريقا صائبا للخلاص الوطني والقومي، وفي هذا الاطار كان للبعثيين في تونس آنذاك اسهامات هامة في تسهيل عمل تطوع المجاهدين التونسيين لتحرير فلسطين عام 1948 وفي دعم الثورة الجزائرية والتأييد الشعبي لوحدة مصر وسوريا عام 1958. ومع أواخر الخمسينات عقد عدد من البعثيين ندوة بالمرسى لتدارس أوضاع القطر وما فرضه النظام البورقيبي عليهم من مضايقة. يرجع ظهور البعث والبعثيين الى أواخر الاربعينات، ثم الخمسينات قبل وبعد الاستقلال السياسي، وقد اتسمت تلك المرحلة بالتبشير بالمبادئ القومية والافكار التحررية ومواجهة الاستعمار بكفاح مشترك على امتداد الارض العربية، وهكذا فتاريخ البعث يرجع الى خمسة عقود من الزمن. وحدث ان تميزت مرحلة الستينات من نضال البعثيين بالأساس في مقارعة النظام البورقيبي وتسلطه فكانت حركة 1962 ردا بليغا عن النهج الفردي والتسلطي لنظام بورقيبة، كما عرفت هذه الحقبة الاسهام في انجاح التعريب والتعليم الثانوي خصوصا المواد العلمية من خلال خريجي جامعات المشرق العربي اضافة إلى الاسهامات في تنقية مادة التاريخ من الطابع الرسمي والانعزالي لكي لا تهمش الروابط الحضارية التي تربط الشعب العربي في تونس بأمته العربية. وكانت حرب الخامس من جوان 1967 قد حركت في الجماهير العربية في تونس ضميرها الوحدوي فخرجت بمئات الآلاف في مظاهرات صاخبة متحدية السلطة ومنددة بتخاذلها مصممة على المشاركة الفعلية في المعركة القومية ضد العدو الصهيوني وفوجئ النظام بعظمة الوعي القومي والوحدوي عند الجماهير الشعبية في تونس. ومن المسلم به أن بورقيبة قد عمل منذ 1956 على التفرد بالحكم بدعم لا محدود من الغرب مستعينا في ذلك بأجهزة الدولة القمعية والحزب الدستوري واستطاع ان يحول الوطنية التونسية الى «وطنية رسمية» مقننة معيارها الولاء الأعمى لشخصه او لحزبه الحاكم. لم تتغير سياسة بورقيبة تجاه العروبة والاسلام ولم تحد أبدا عن أسلوب التفرد بالحكم والاستبداد تجاه كل الحركات المعارضة ولا سيما تجاه البعث والبعثيين، ولقد تميز نضال البعثيين خلال السبعينات والثمانينات بالتركيز على المسألة الديمقراطية وعلى اعادة الاعتبار الى مقومات الهوية الوطنية العربية الاسلامية وعلى قضية العدالة الاجتماعية مع إيلاء العناية الفائقة لقضايا الحريات العامة وحقوق الانسان من خلال النضال داخل المنظمات المهنية والانسانية والنقابية كالحركة الطلابية والاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، هذا بالإضافة الى اهتمام البعثيين بتعميق الوعي النضالي في حقوقهم وتنظيم تحركهم السياسي. ولم تتغير الامور حتى بعد إزاحة النظام البورقيبي على يد النظام المقبور سنة 1987 الذي حاول الالتفاف على المطالب الشعبية التي ناضل من أجلها شعبنا بكل قواه الوطنية. ٭ كيف تقرؤون الوضع السياسي في تونس بعد ثورة 14 جانفي؟ إن السقوط المدوي لبن علي مساء 14 جانفي جاء نتيجة مباشرة لنضالات شعبنا البطولية بمختلف قواه الوطنية والديمقراطية التي بدأت مع أحداث الحوض المنجمي قبل عامين وما رافقه من قمع شرس بحق الثوار المنتفضين في ربوع الجهة فجاءت انتفاضة ديسمبر من العام المنصرم وانطلاقا من ولاية سيدي بوزيد لتؤكد على فشل خيارات النظام المقبور فتتسع دائرتها لتشمل أغلب جهات القطر لتنتهي بكنس نظام السمسرة والفساد بلا رجعة. إننا في حركة البعث اذ نقف اجلالا واكبارا للشهداء الذين هم أكرم منا جميعا الذين سقطوا على مذبح الحرية والكرامة، وحتى نكون أوفياء لدمائهم الزكية ولكي تقطع الثورة مع كل مخلفات العهد البائد فإننا ندعو شعبنا وكل قواه الحية إلى اليقضة والوقوف بكل حزم أمام ما سمي بحكومة «الوحدة الوطنية» التي تعد حكومة التفاف على ثورة الشعب ومطالبه وطموحاته التي كانت بصمات القوى الاقليمية والدولية المعادية واضحة على معالمها، ونؤكد ان هذا القطع لا يمكن ان يكون الا خارج دستور غرة جوان الذي أعد على قياس بورقيبة وما رافقها من تعديلات الدكتاتور المخلوع التي صممت على مقاسه الشخصي وأن ما يسمى بالشرعية الدستورية إنما الهدف منه استنساخ نظام بن علي مع بعض التعديلات الهامشية التي تغري بعض المتهافتين واللاهثين وراء الكراسي والمواقع. ٭ على مستوى المشهد السياسي هناك تباينات بخصوص الفترة الانتقالية، أنتم انضممتم إلى جبهة 14 جانفي ومجلس حماية الثورة، ماهي قراءتكم في هذا المجال؟ إن نضالنا ضمن جبهة 14 جانفي يأتي في سياق ايمان الحزب بأن نجاح الثورة وتحقيق أهداف شعبنا وانتصاره لارادته الحرة لا يمكن ان يتحقق مع ما تم تنصيبه في شكل الحكومة الحالية التي عبر شعبنا عن رفضه لها منذ انطلاقها كما ان تأسيس مؤتمر حماية الثورة المكون من الجبهة وأطراف سياسية وجمعيات ومنظمات نقابية وحقوقية وشخصيات وطنية وممثلي لجان حماية الثورة جاءت لتؤكد صواب النهج الذي اتفقت عليه كل هذه القوى لتنتصر للثورة، وأن نضالنا في هذا الاطار يندرج في تفكيك البنية الدكتاتورية للنظام والعمل على ارساء مجتمع ديمقراطي تعددي الذي لا يقصي ولا يستثني للقطع نهائيا مع الحقبات المظلمة التي مرت بها البلاد. ٭ هناك خليط متعدد من الألوان والأطياف البعثية في تونس، ما الذي يميزكم عن سائر التنظيمات البعثية في تونس؟ إن السياسات التي اتبعها بورقيبة ومن بعده بن علي في الانفراد بالرأي واقصاء كل الخصوم السياسيين وخاصة القوميين في القطر وتحديدا البعثيين وما سلط عليهم من تنكيل ومطاردات ومحاكمات وملاحقات يشهد عليها شهداء البعث في القطر من المرحوم الرفيق عمر السحيمي مرورا بالرفاق الصادق الهيشري وحسن المباركي وفوزي السنوسي والإيقافات التي شملت مئات البعثيين في أقبية وزارة الداخلية، جعلت البعثيين يبحثون عن أساليب عمل مشروعة لحماية أنفسهم من ناحية ومواصلة رسالتهم النضالية من ناحية أخرى في الانخراط في الجامعات والمنظمات المهنية والحقوقية وغيرها تحت مسميات عديدة، وهذا الأمر لم يكن مقتصرا على البعثيين فقط وانما مارسته أغلب القوى السياسية التي كانت هي الاخرى محرومة من العمل السياسي. ٭ ألا توجد امكانيات لتوحيد التنظيم البعثي في تونس؟ اليوم وقد قال شعبنا كلمته الفاصلة وبصوت عال للانفراد ولا للاقصاء ولا للتهميش فان كل الاساليب التي اتبعت في الحقبة المظلمة التي مرت بها البلاد سيقع تجاوزها وستزول تلقائيا وسيجد البعثيون والقوميون عموما انفسهم في خندق واحد من أجل بناء مشروعهم الذي ناضلوا من أجله في إطار حركة تأوي الجميع ومنفتحة على كل المؤمنين بالمشروع القومي التحرري لشعبنا وأمتنا. ٭ ما هي علاقتكم بالأحزاب ذات المرجعية العروبية أو القومية؟ إننا في حركة البعث اذ نطمح الى توحيد كل نضالات شعبنا وقواه السياسية لتحقيق أهداف شعبنا وامتنا حريصون كل الحرص على النضال مع هذه القوى السياسية وخاصة ذات المرجعية الوحدوية وسنعمل في المستقبل مثلما حاولنا في السابق على توحيد هذه القوى بما يخدم أهداف شعبنا وأمتنا المجيدة.