بعض القرّاء يحتقر الكتب الصغيرة الحجم ، وكثير من الجامعيّين يستنكفون منها لتعوّدهم على الأطاريح المضخّمة . وفي مخازن مركز النشر الجامعي وأمثاله في تونس و الخارج أكداس من المطبوعات التي يزهد فيها الجامعيّون أنفسهم رغم أسعارها الزهيدة بالنسبة إليهم بعد التخفيض المشجّع . وفيها ، مع بعض الاستثناءات ، علم كثير صالح للجميع ، ولكن ما من سائل عنها ، للأسف الشديد . وقد قرأت لكبار الفلاسفة و الأدباء ، من العرب و العجم ، وأخصّ بالذكر من الغرب أعلام التنوير ومشاهير الألمان ، كتبا صغيرة الحجم عظيمة النفع تدوّن حيوات وتحوي نظريّات . وفي مكتبتي أطروحات تصفّحتها ولم أطالعها . ذلك لأنّ وقتي فيما بقي من العمر في تقلّص ، وجهدي بعد أتعاب السنين في تراجع . منها واحدة أهدانيها صديق الأربع الرائعة في دار المعلّمين العليا في أوائل السبعينات . ها أنا أنظر إليها متوسّطة غيرها ممنّيا النفس بقراءتها ذات يوم ، وقد كبرت عليّ بجزئيها الثقيلين . ومن قدماء المؤلّفين من يلخّص كتابه الكبير تسهيلا على طلاّبه أو يتطوّع غيره فليخّصه، ثمّ يأتي من يلخّص التلخيص، ويليه من يشرحه ثمّ من يعلّق عليه . وهكذا تتقدّم المعرفة بالمؤلّفات و المختصرات و الشروح و الهوامش و الحواشي و الأراجيز . وأعظم بها من معرفة شاملة ومشمولة بالنثر و الشعر ! معرفة شاهدة على تطوّر عبر العصور من الشفويّ إلى المدوّن ، ومن الإبداع إلى التقليد وحتّى إلى الاجترار . ولا حرج في ذلك ما ظلّت الكتب مطلوبة ومراكز العلم مقصودة وكلّ واجدا مرغوبه بأيّ شكل يريده ويقدر عليه مجلّدا في أجزاء أو رسالة في صفحات ، من تاريخ الطبري إلى « أيّها الولد» للغزالي ، من جملة عناوين عديدة . وأطروحات الدكتوراه في الآداب ، المشروطة بحوالي ستّمائة صفحة ، تلجئ الطالب إلى ملء قسمها الأوّل بالنقول عن سابقه . وقد دعيت لحضور مناقشة لام فيها رئيس اللجنة المترشّح على المبالغة في مثل هذا قائلا : « بحثك عن التصوّف بإفريقيّة في القرن الثامن الهجري ، وقد ملأت المائة صفحة الأولى بأطروحة غيرك عن الموضوع نفسه في القرن السادس ، والمائة صفحة الثانية بأطروحة زميلك عن الموضوع ذاته في القرن السابع ! أليس الأفضل لو اكتفيت بالإحالة عليهما مع تلخيص نتائج بحثيهما في ثلاثين صفحة كافية لتنطلق إلى الفترة التي اخترتها لإضافة الجديد و إكمال الصورة ؟ « وإذ نال الشهادة بملاحظة مشرّف جدّا ، كالعادة ، تعذّر عليه نشرها . ولو عمل بنصيحة المناقش بغية الاختصار لخفّت كلفتها على الناشر و خفّ وزنها وسعرها على الشاري . و لا شكّ أنّه بملخّصات الأطروحات تروج المعرفة أكثر بنشر غير مكلف وسعر غير مجحف في وقت غير مسرف . وتبقى الأصول الكاملة في سحب محدود للمتخصّصين إن شاؤوا اقتنوها من المكتبات التجاريّة ، وإن بخلوا طلبوها من مكتبات الكلّيات و نظائرها كمعهد « إبلا» (IBLA) والمكتبة الوطنيّة. هذه فكرة مستحدثة من القديم و ملائمة لطبع التونسي عندما يستعجلك إذا طوّلت عليه الكلام بالسؤال : « من الآخر ماذا تحبّ أن تقول ؟ « و الوقت ثمين و العلم كثير ، و الحيلة بالمختصر المفيد ، لا بالتقسيط المملّ . فكرة قد تحلّ جانبا من مشكلة أمّة « اقرأ» عسى أن تقرأ . ولسوف تقرأ .