الدكتور دوراكوفيتش : "الأدب العربي لا يُمْكِن أن ترى حدودَ آفاقِه؛ وهو يرفض حصر الدول أو الشعوب في ثنائية الأرض واللغة فحسب". سراييفو/ عبد الباقي خليفة 14/11/1429 12/11/2008 صدر مؤخرًا كتاب جديد للدكتور أسعد دوراكوفيتش (الباحث البُوسني الحائز على جائزة اليونسكو لخدمة الثقافة العربية لعام 2004) عن دار كونيكتوم البوسنية في 471 صفحة من القطع المتوسط. ويتناول هذا الكتاب موضوعات وجوانب مختلفة من الأدب العربي؛ قديمَه وحديثَه، ومن الأدب البوسنوي الذي نشأ خلال قرون متواليةٍ باللغات الشرقية والعربية والتركية والفارسية، بالإضافة إلى مناهج الاستشراق (العلمية) وعن قضايا تسمية هذا (العلم). وفي حديثٍ خاص لشبكة "الإسلام اليوم" قال المؤلف: "كثيرًا ما يتميَّز الاستشراق بميولِه الأيديولوجية السلبية تجاه ما يُدرَس، ومثال ذلك زَعْم البروفيسور غيبب- وهو أحد أبرز المستشرقين، ويعمل أستاذًا فى جامعة كولومبيا الأمريكية- أن "الإسلام هو دين الغضب والعنف". ومثال ذلك أيضًا التعصُّب الذي أبداه المستشرق الإيطالي البارز غابريييلى ضد الإسلام في «تاريخ الأدب العربي» بشكل غير أكاديمي بل هو أقرب إلى الانطباع الذي يُبْرِز مدى تدخُّل خلفياته فيما سطَّره من فوضى. ويبني بعض هؤلاء المستشرقين بكلماتهم هذه تِلالاً من البُغْض تجاه المسلمين وسبيلاً للعدوان عليهم وعلى ثقافتهم؛ لأنَّ المسلمين- حسب رأيهم- هم قوم الظُّلْم والفوضى والكراهية... الخ، مما يعني أنهم لابدَّ من إبادتهم. ويضمُّ الكتاب أبحاثًا تتعلَّق بتراث البشانقة، إلا أن عمله لم يتجاوز إثبات ما توصّل إليه أولئك العلماء البوشناق ممَّن ذكر أسماءهم في ثنايا الكتاب، الأمر الذي برَّره المؤلف بقوله: "أعتقد أن هذا التقييم يأتي نتيجة لحقيقة أنني أتناول أبحاث المستشرقين البشانقة وأُقَيِّمها وفقًا لتقييمهم للأدب والثقافة التي يتناولونها هم بأنفسهم. ومن ناحية أخرى أزعمُ أنه لابدَّ من دراسة أو تناول تراث البشانقة باللغات الشرقية ضمن التراث الإسلامي الشرقي؛ لأن ذلك التراث– في عهده الكلاسيكي– أوسع من حدود أي شعب أو منطقة". نماذج من الكتَّاب البوسنيين: ومن المواضيع التي تَضمَّنها الكتاب بين دفتيه: "علم البلاغة العربية كعلم ناضج وتطوره بالعربية فى البوسنة، وقصائد من نوع "نظيرة" في مدينة موستار، كتعبير عن وعْي الشعر وعن نضج التراث البوسنوي التام. كما نجد تقييمًا لآثار مصطفى أيوبوفيتش الموستاري في إطار التراث العربي الإسلامي وهو من أشهر العلماء البشانقة (عاش بين القرنين السابع عشر والثامن عشر في مدينة موستار). وقد ألف عدَّة مؤلفات باللغة العربية. وكانت تلك المؤلفات تدرس وتراجع في البوسنة والهرسك كلُّها على مدى قرنين تقريبًا. كما ألّف كُتبًا في مجال أصول الفقه والبلاغة وعلم النحو والصرف وعلم الوعظ والمنطق وغيرها من العلوم العربية الإسلامية. وكان ذا نفوذٍ كبير جدًّا لأجيال كثيرة ونُسِخَت مؤلفاته على أيدي الخطَّاطين على مدى قرنين كما سبق. ويعتبره الدكتور دوراكوفيتش "جديرًا بأن يكون مضرب المثلَ بجانب الاقحصاري (ولد 1544م) الذي ألّف في البلاغة العربية كتابين، طُبِعا باللغة العربية؛ أولهما: «تمحيص التلخيص في علم البلاغة» وثانيهما: «شرح تمحيص التلخيص». ويتعلق هذان الكتابان ب"التلخيص" للقَزْوِينِي. وفي الحقيقة لم يأتِ الأقحصاري بشيء جوهريٍّ جديد في هذا المجال، مثلما لم يأتِ العلماء العرب على مدى قرون بعد السَّكاكيّ والقزوينيِّ. وقد ألّف الاقحصاري مختصرًا ممتازًا ل«التلخيص» وكان مضطرًا أن يكتب فيما بعدُ شرحًا «لتمحيصه»؛ لأنَّه كان صعب الفهم نتيجةً للاختصار. كما نجد في الكتاب بحثًا بعنوان "الاجتهاد الثقافي التعليمي لدى محمد خانجيتش" وهو من أبرز العلماء في البوسنة ومتخصص في علوم الدين (تخرَّج في جامعة الأزهر). عاش محمد خانجيتش في فترة هامة جدًّا بالنسبة لثقافة البشانقة وبالنسبة لتاريخهم عامة، في ذلك الوقت تقريبًا- أو قبيل ذلك الوقت- انسحبت تركيا من البلقان واحتلَّت النمسا البوسنة. وهكذا بقي البشانقة بدون الأبجدية (العربية) كما يقول الدكتور دوراكوفيتش، أو أنهم أصبحوا "أميين"، كما يقال، "بين عشية وضحاها"؛ لأن النمسا أتت بأبجديتها وثقافتها. "لتلك الأسباب توقّف البشانقة عن الإبداع الخصب؛ لأنهم كانوا يتردَّدون بين الثقافة الغربيةوالشرقية". وفي هذا الوضع الصعب "نجد خانجيتش الذي كان من رُوّاد نهضة البشانقة بمواقفه الحديثة وبثقافته الواسعة بنشاطه البارع حيث كتب أكثر من 300 دراسة بالرغم من أنه تُوُفِّيَ قبل الأربعين من عمره". أيديولوجية المركزية الأوروبية: كما يخصِّص الكاتب جزءًا من مباحث الكتاب لآثار إيفو آندريتش (الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1961م) من تيارات أيديولوجيا "المركزية الأوروبية". والذي تنَّبأ بعمليات الإبادة التي حدثت في البوسنة سنة 1992 بناءً على المخزون الكبير من الكراهية لدى الصِّرْب تجاه كل ما هو عربي وإسلامي. "أقصد بذلك أن آندريتش ينتمي في الحقيقة إلى نفس التيار الأيديولوجي الذي ينتمي إليه بعض المستشرقين وهو المركزية الأوروبية (بتعبير إدوارد سعيد) التي تؤسس لعقيدة ترى من الضروري إبادة المسلمين. وهناك حقيقة تاريخية وهي أن البشانقة قد تمَّت إبادة الكثير منهم بالجملة، وآثار آندريتش تبرِّر وتُهَيّئ لتلك الإبادة بالوسائل الخاصة التي يملكها الأدب". أما عن الأدب العربي فيضمّ الكتاب الأبحاث التالية "دراسة تاريخية ونقدية حول المعلقات السبع وأهميتها من ناحية نظرية الإبداع في تاريخ الأدب العربي" وعن ذلك قال المؤلف: "موضوع المعلقات من أهم الموضوعات في التراث العربي العظيم فلا يمكن أن أتكلم عنها بإيجاز. يمكنني أن أقول فقط: إن هذا الحوار لا يكفي لإعطاء المعلقات حقّها، لقد ترجَمْتُ المعلقات السبع كاملة إلى اللغة البوسنوية، وهذه الترجمة هي أول ترجمة إلى لغات السلاف فى البلقان. كما قدَّمتُ في كتابي النص العربي للمعلقات ومقابلها ترجمتها باللغة البوسنوية الحديثة المفهومة للقراء، ثُمّ قدمتُ النصّ العربي بالكتابة اللاتينية ومقابلها ترجمتها حرفيًّا وبشروح شاملة". كما نجد في ثنايا الكتاب دراسة عن "ألف ليلة و ليلة"، وهي دراسة طويلة نسبيًّا ومتعلقة بنشأة هذا الأثر الأدبي وترجمته إلى لغات العالم وقيمه الأسلوبية، ودراسةً حول الشعر العربي في القرن العشرين، ودراسةً حول شعر المقاومة الفلسطيني، وآثار خليل جبران بين التراث العربي و الغربي، ودراسةً حول طُرُق تركيب الرواية العربية تركيبًا حديثًا– حول رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" لطيب صالح. ودراسةً حول طه حسين– الطريق بين قيم التراث والتبعية. ودراسةً حول إبراهيم جبرا وتطور النثر العربي الحديث. وقد علَّق المؤلف على هذا الجزء قائلاً: "يمكنني القول بصورة عامة: إنني أحاول باختيار هذه الموضوعات والمؤلفين من الأدب العربي أن أختار وأقدِّم للقراء بلغة بسيطة أهم الموضوعات وأفضل الآثار باللغة العربية كي يتعرَّف عليها القراء بأفضل طريقة". مضيفًا: "طبعًا يبقى تغطية الكثير من القيم خارج حدود طاقتي؛ فلي عمر واحد، فيه يوم وليلة يستمران 24 ساعة فقط، أما الأدب العربي فلا يمكن أن ترى حدودَ آفاقِه". عالمية الأدب: وبصورة عامة يتميز الكتاب بتعبير مؤلفه الذي وُفِّق إلى حدّ كبير في هذا المجال بأنه لا يمكن تحديد الأدب في الأُطُر القومية الضيقة بل هو بطبيعته العامة والخاصة يوسّع تلك الحدود ويَفوقها أو بعبارة أخرى: لابدَّ أن نبحث عن الأدب في بعض مراحله التاريخية كنظام القيم الخاصة الذي يظهر أمام الباحث نظامًا فوق أي قوم أو أي قومية بالرغم من أنه يَتلَّون إلى حدّ ما بألوان شعب أو قوم مُعَيّنين. وانطلاقًا من هذا الطريق المنهجي يستنتج المؤلف أن هناك أسسًا أو مبادئ وينابيع مشتركة للأدب الشرقي الإسلامي القديم بغضِّ النظر عن تطوُّره في مصر وسوريا والعراق والسعودية ولبنان وغيرهم، أو في البوسنة مثلاً إذا كان ينشأ ذلك الأدب باللغة العربية (كما كان الحال في التاريخ) ووفقًا لقواعد نظرية الإبداع المعينة. إذًا هناك ضرورة كما يقول المؤلف لأنْ نتناول الأدب في "إطار" دائرة الثقافة الشرقية الإسلامية؛ لأنَّ هذا الأدب يرفض حَصْر الدول أو الشعوب في ثنائية الأرض واللغة فحسب".