كثيرة هي الثورات التي وقعت في مراحل التاريخ المختلفة. وسلكت طريق العنف وتذوقت طعم الدم، بيد أن العنف كان موجها ضد أعدائها والدماء التي سالت كانت بمعنى ما من المعاني ضرورة لشجرة الثورة حتى تمد جذورها وتعلى غصونها وتؤتي ثمارها. غير أن ما حدث في العراق خلال تلك المرحلة المأساوية الحزينة من تاريخه كان أشبه بكابوس مرعب في ليلة مظلمة. فلا أحد يمكنه أن يتصور كيف يمكن لانحرافات الفكر وجموده وانغلاقه على مقولاته الجاهزة أن تدفع بآلاف البشر إلى أشكال جديدة همجية من المذابح الجماعية. والغريب في الأمر أن ذلك جرى في ظل الشعارات التي تكثف أجمل وأنبل ما تحاول البشرية أن تصل إليه «الاشتراكية». إن الإنسانية جمعاء وفي مقدمتها الإنسانية التقدمية لم تغفر لستالين – رغم كل انجازاته الداخلية وفي الحرب العالمية الثانية – ما ارتكبه من جرائم في حق الديمقراطية والحرية وضد من وصفهم بأنهم أعداء التطور الاشتراكي بين جماهير شعبه. وكان للتقرير الذي أدلى به خروشوف في جلسة مغلقة من جلسات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي وكشف فيه لأول مرة حجم تلك الجرائم وأبعادها وقع الصاعقة على كل من كانت عقولهم وقلوبهم مشدودة إلى الفردوس الاشتراكي الذي كان يحرسه جوزيف ستالين نيابة عن الأممية. والانهيارات والانقسامات التي حدثت على إثره في كثير من الأحزاب الشيوعية في أربعة أطراف العالم كانت تعبيرا تراجيديا حادا على المستوى الجماعي والمستوى الفردي عن يقظة الوعي بين أحباب الاشتراكية في كل مكان واكتشافهم فجأة أنهم إنما كانوا يتعبدون لجسد بغير روح وانه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان و إنما بالحرية والديمقراطية أيضا. ومع ذلك فإن ذلك كله جرى في إطار تجربة تاريخية كانت تقتحم عبودية الإنسان لأول مرة وعلى الرغم من أن هذا لا يبرر ما انطوت عليه من نقيض لما يفترض أنه جوهرها، فإنه على الأقل يمكن أن يقدم كتفسير – وما أكثر ما قدم كتفسير – لما أصاب التجربة التاريخية من مطاعن في صميمها ولكن ما الذي دفع بالثورة العراقية التحررية بعد شهور قليلة من قيامها بنجاح وبالتضامن مع كل السواعد الوطنية وتلاحم كل الأكتاف الحزبية إلى تلك الحماقة؟ لماذا اندفعت أو دفع بها بهذه السرعة إلى مشارف مستنقعات الدم التي أوغلت فيها؟ وكيف تحولت كل أهدافها ومثلها النبيلة في الحرية والوحدة والاشتراكية – وكلها وجوه لمنظور واحد – إلى تلك الصراعات الدامية التي تقطر حقدا ومرارة بين جنود الخندق الواحد و أبناء الحلم الواحد؟ إن ما حدث في مدينة الموصل في مارس- عام 1959 ثم ما حدث بعد ذلك في مدينة كركوك في جويلية 1959 لا يستطيع أن يصفه إلا الراسخون من مؤلفي روايات الرعب أو كبار كتاب المآسي التاريخية في التاريخ البشري. ولم يكن الإقطاع أو الرجعية أو الرأسمالية الاحتكارية بل ولا حتى شركات النفط الاستعمارية هي (ضحايا) أو شهداء حمامات الدم الوطنية، على العكس كانت القوى الوطنية والقومية هي التي تسقط بين عقد الحبال المجنونة وترصف الطرقات والشوارع بأجسادها المنهكة بينما كان الإقطاع يشد على يدي الرجعية والرأسمالية الاحتكارية تشرب أنخاب الدم مع الشركات الاستعمارية. لقد حاول الحزب الشيوعي أن يقيم في الموصل استعراضا كبيرا لقوته تحت عنوان (مهرجان السلم الكبير) في اليوم السادس من مارس 1959، وحشد له آلافا من المواطنين في قطار مجاني يغادر العاصمة حاملا لافتة كتب عليها (قطار السلام إلى الموصل) وظل ينشر على صفحات جريدته شعارات تحريضية من قبيل (هلمّوا إلى الموصل للاشتراك في مهرجان السلم الكبير) (إلى المدينة الباسلة مدينة الأمجاد الثورية) (قطار السلام يغادر بغداد مساء اليوم).... وبالطبع لم يكن السلام العالمي في خطر ولا الحرب العالمية على الأبواب. (يتبع)