تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسئلةُ الوجود... أسئلةٌ الفعل
اليسار: عبد الحفيظ المختومي (الكنعانيّ المغدور)
نشر في الشعب يوم 20 - 02 - 2010

(1)اليسار «مربوط السّرّة» بالماركسية، وهو سرّتها، والمعادلة الممارساتية والمترجمة الميدانية للرؤية الماركسية للعالم والإنسان والمجتمع وتأويلها.
والحديث عن اليسار، هو الحديث ضرورة عن الروح النقدية للماركسية قراءة وتفكيكا وتحليلا وإضافة وتجاوزا، والثورة على الجمود والدوغمائية والروح الكهنوتية والسّلوك الانتهازي للأحزاب والأفراد..
«أنا يساريّ إذن أنا ماركسي» مقولة الوعي والوجود والسّؤال حول مشروعية من هو اليساريّ؟ هل هو ماركس أم باكونين؟ هل هو لينين أم روزا لوكسمبورغ؟ هل هو ستالين أم تروتسكي؟ هل هو ماكسيم غوركي أم جدانوف؟ هل هو أنور خوجا أم اسماعيل كاداري؟ هل هو موريس توريز أم ج.ب.سارتر؟ هل هو فيديل كاسترو أو إرنستو غيفارا؟ هل هو جورج حبش أم نايف حواتمة؟؟؟
قد تستعمل لفظة «يسار» في غير موضعها لتتحوّل إلى صمغ يُمضغ ويُعلك ويُلاكُ بلا لون ولا طعم لدى المرضى المهووسين بالإنتساب إلى حقول اللفظة المعجمية والدلالية.
وقد تستعمل لفظة «يسارا» تجاوزا في أحايين ما لنعت شخص أو فصيل سياسي باليسارية تمييزا له عن اليمين ك «اليسار الليبرالي»... لكن لا علاقة لهذه المسمّيات والنّعوت بالقاموس السياسي والإيديولوجي الماركسي ولا بأبعاده الفكرية والتزاماته النظرية..
أريد بهذا التمهيد القول جملة بماركسيّة اليسار ورفع ما يمكن أن يحيط به من لبس أو يلفّه من غموض،، والابتعاد عن المكرور «التاريخاني» السطحي المجترّ حول «يمين المجلس ويساره».
برز اليسار ملتصقا بالماركسية منذ ظهور «البيان الشيوعي» وانتشار النشاط الحزبي والسياسي للمنخرطين تحت لوائها والحاملين شعاراتها والصائغين برامجها والواضعين خططها المرحلية والاستراتيجية والمحدّدين أهدافها وغاياتها (الأممية الأولى، الأممية الثانية...) ليتوّج ذلك كلّه بعد صراعات وتعرّجات ومنحدرات في محطات تاريخية، ونضالية كبيرة في حقول النظرية والمعرفة والمجتمع، بثورة 1917 الروسيّة.
ومنذئذ سوف ينتشر الفكر الماركسي وأدبياته لتتبنّاه قوى مختلفة في أوروبا ثم بعد ذلك في أنحاء العالم: تأسيس أحزاب ومنظمات ونقابات ومجالس عماليّة وحركات فكرية فلسفية وثقافية واجتماعية...
أنشئت مع قيام ثورة 1917 وبعدها نظم أسندت لنفسها صفة الاشراكية، والديموقراطية الشعبية: الاتحاد السوفياتي، أوروبا الشرقية، الصين، كوريا...
وبرزت أحزاب تتبنّى بالكامل (ولا تتباين مع...) برامج هذه النظم وأحزابها. وحين سيطرت الستالينية بالكامل لا على قيادة الاتحاد السوفياتي فقط، بل وحين أخضعت جميع الأحزاب والمنظمات للدوران في فلكها وتبنّي نظرية «الاشتراكية في بلد واحد» والتجنّد للدفاع عن «الثورة العظيمة» وحزبها «الطليعي» وقائدها «الفذّ»، بدأت تبرز صراعات داخل الماركسية نفسها لتبلغ ذروتها ببلوغ النظام الستاليني حدّة ممارساته وممارسات دواليبه الحزبية والمخابراتية: محاكمات، تصفيات، اعتقالات، اغتيالات توّجت باغتيال مؤسس الجيش الأحمر في المكسيك، وتصفية آخر رفاق لينين من البلاشفة.
انتهت هذه الأحداث الدموية بولادة مفاهيم جديدة لليسار، وصياغة تصنيفات للأحزاب:
الأحزاب الستالينية الأورثوذكسية
المعارضة اليسارية (كان يسميها ستالين نفسه هكذا) وتأسيس الاممية الرابعة ومتفرّعاتها.
التيارات الفوضوية والمجالسيّة...
مدرسة «فرانكفورت» والماركسية الجديدة: «ه ، ماركيز، أودرنو...»وسيتحوّل الصراع بعد محاكمة المرحلة الستالينية في المؤتمر العشرين للاتحاد السوفياتي الى داخل أحزاب ستالينية: ألبانيا والصين وروسيا... لتبرز مفاهيم التحريفية «الخروتشوفية»، والإمبريالية الاشتراكية، ولننتهي إلى الصراع بين تيرانا وبيكين رفاق الأمس أعداء اليوم.
و مع التحولات العالمية «الجغراسياسية» (Géo-politique) والحرب الباردة وتقسيم ألمانيا وقيام الجدار الحديدي وبروز القطبين، سوف يبلغ اليسار ذروته مع ثورة ماي 1968 الفرنسية ليأخذ هويته النهائية والحاسمة:
اليسار الماركسي الراديكالي ضد الستالينية والتحريفية ومشتقاتها، وتكون القطيعة النظرية النهائية والتأسيس لمدارس وتيارات جديدة تحمل في داخلها روحا نقدية جذريّة تنهل من الأدبيات التروتسكية أولا ثم المادية بعد ذلك، بل ومن الفوضوية أحيانا أخرى.
في الستينات والسبعينات من القرن الماضي يبرز هذا اليسار الجديد في أحزاب ومنظمات:
ففي أوروبا الغربية منظمات تعمل على خلخلة مكونات المجتمع الرأسمالي ومؤسساته وقيمه: «بادرما ينهوف»، «الأولوية الحمراء»، «العمل المباشر»، «المجالسيين»...
وفي إفريقيا نهوض حركات تحرّر ذات توجّه ماركسي ضد اخر معاقل الاستعمار البرتغالي والميز العنصري، مستندة إلى دعم سوفياتي أو كوبيّ أو صينيّ: الرأس الأخصر، غينيا بيساو، أنغولا، الموزمبيق، روديسيا (زيمبابوي حاليا)، الكونغو الديموقراطية، أثيوبيا...
وفي الوطن العربي: الثورة الفلسطينية وكفاحها المسلّح والشق اليساري منها تحديدا (الجبهة الشعبية وفصائل أخرى)، حركة تحرير ظفار..
وفي آسيا: الفيتنام، اللاّوس، كمبوديا، وأحزاب ماوية وشيوعية في بلدان شرق آسيا..
وفي أمريكا اللاتينية، وتتويجا لعمل المناضل الأممي الفذ «ارنستو غيفارا» واستشهاده، ظهور حركة «التوباماروس»، وحركة «المير» (Mir) الشيلية وأحزاب في بوليفيا، والسفادور، والهندوراس، وانتهاء بالحركة الساندينية وانتصارها في نيكاراغوا بإسقاط نظام سوموزا.
إلاّ أنّ ما كلّ ما يريده اليسار ويتمنّاه يدركه، إذ تجري منعطفات التاريخ وتعرّجاته بما لا يشتهيه هذا اليسار نفسه. وستقود محطات فاجعيّة هذا اليسار، بعد هذه الديناميكية وهذا الاشعاع وهذا التأثير إلى ضمور فانكفاء.
شكّل سقوط «الاتحاد السوفياتي» بلد «الاشتراكية» الأول قاصمة الظهر لهذا اليسار، وما تبعه من سقوط كارثي ودرامي أحيانا في أنظمة الحزام والأطراف (ألمانيا الشرقية ورومانيا مثلا، ثم يوغسلافيا لاحقا)، لتظهر حقائق مفزعة، مأساوية على الطريقة الشكسبيريّة:
تحوّل جمهوريات سوفياتية سابقة إلى إسلامية صرفة: أوزباكستان...
تحوّل ألبانيا أنور خوجة إلى ميدان صراع إثني وديني وانكشاف كونها من بين أفقر دول العالم واكثرها انتشارا للجريمة، وعودة الروح الثأريّة العثمانية القديمة (ألبان كوسوفو).
في الوطن العربي: هيمنة اليمين وسيادة اتفاقات «كامب ديفيد» ثم «أوسلو» ليتراجع الكفاح المسلح ويتراجع اليسار ويتنفّذ اليمين وقطار التّسوية العربية الرسمية، حتى صرنا كلّنا «في الهمّ شرقُ».
عودة الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية في إفريقيا، والتصفيات العرقية والمذابح الجماعية والتخلّف التنموي وانتشار الفقر والمجاعات والأوبئة و»اللهم لا نسألك ردّ القضاء لكن نسألك اللطف فيه».
وفي آسيا إثارة الصراعات العرقية والدينية: بوذية، هندوسية، إسلامية، تاميل، ليتوّجها كلّها الرفيق «تسونامي» بماأتى به للقضاء على الأخضر واليابس.
واستثنيت أمريكا اللاتينية لما تملكه من تراث ثوري خصوصي وملامح فريدة ومتميّزة في مقاومة الهيمنة اليانكيّة... وفي أوروبا لم تجد تلك الحركات اليسارية لكي لا تحكم على نفسها بالموت الا البحث عن صيغ جديدة للاستمرار فكانت المنظمات غير الحكومية وبلا حدود...
إنها أسئلة الوجود، أسئلة الفعل، ويبقى للتاريخ إن لم يفقد هو أيضا وعيه أسئلته الخاصة به.
(2)
أسطورة اليسار
في التفاؤل السياسي
يسار، ثورة، بروليتاريا، مفاهيم جارية ومطابقة للعصر à la mode وإجابات متأخّرة للأساطير الكبرى التي تحرّك منذ عهد قريب التفاؤل السياسي، التقدّم، العقل، الشعب.
تفترض أسطورة اليسار أسطورة التقدّم، ولا يكفّ اليسار على أن يواجه أمامه يمينا قاطعا عليه الطريق، ولم يهزم ولم يتبدّل.
وفي هذا الصراع تُسجّل أسطورة الثورة حتميّتها، ولن تهزم مقاومة الطبقات أو المصالح المعادية «للمستقبل الغرّيد» إلا بالعنف، وفي الظاهر تتعارض الثورة مع العقل تحديدا: فهذا يطرح الحوار، وتلك تطرح العنف، أي إمّا أن نتحاور وننتهي إلى إقناع الآخر، وإمّا أن نقلع عن ذلك ونلجأ إلى السّلاح.
والمهمّة المسندة الى البروليتاريا، تشهد على ضعف الإيمان بالفضيلة التي أسندت حديثا للشعب، والإيمان بالشعب إنما هو الإيمان بالإنسانية والإيمان بالبروليتاريا هو أن نؤمن، لسوء الحظ، باصطفائها.
يرمز الإثنان، الشعب والبروليتاريا، إلى واقع البسطاء، لكن الشعب يظل، في القانون، كونيّا، أما البروليتاريا فهي طبقة لا تنتصر إلاّ بإلغاء طبقات أخرى، ولا تنخرط في الكلّ الاجتماعي إلا عن طريق الصراعات الدموية، والذي يتكلّم باسم البروليتاريا، سوف يدرك، أن العبيد كانوا في صراع، عبر القرون، ضد الأسياد، ولم ينتظروا حلولا تدريجيا لنظام طبيعي، بل سيعوّل على ثورة العبيد الكبرى لإلغاء العبوديّة.
هذه المفاهيم الثلاثة تحتمل تأويلا حصيفا، فاليسار هو الحزب الذي لن يستسلم للاّمساواة، وسيؤيّد حقوق الوعي ضد تبريرات النظام، والثورة حدث غنائي Lurique جذّاب، غالبا لا مفرّ منه، والبروليتاريا، في المعنى الدقيق للطبقة العماليّة التي أوجدتها الثورة الصناعية، لم تتسلّم من أحد، ولا من ذلك المثقف أصيل ألمانيا، واللاّجئ في بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر مهمّة «تغيير العالم»، لكنها ستمثل في القرن العشرين الطبقة العريضة للضحايا، لا زمرة عمّال ينظّمهم مديرو المؤسسات ويؤطرهم الديماغوجيون.
هذه المفاهيم كفّت عن أن تكون معقولة وأضحت أسطورية على إثر خطإ المثقفين.
ولارجاع استمرارية اليسار الى نصابها عبر الزمن او محاولة إخفاء انشقاق أحزاب اليسار، علينا نسيان ديالكتيك الأنظمة، وتحوّل القيم من ضرب إلى آخر، واستيلاء اليمين على قيم ليبرالية ضد التخطيط والمركزية، وضرورة إقامة تسوية معقولة بين جملة من الأهداف المتناقضة.
رجال كنيسة، ورجال إيمان
لم تعد تحتل الماركسية مطلقا مكانة في ثقافة الغرب، سواء في فرنسا أم في إيطاليا، حيث أنّ جزءا من الأنتلّجنسيا انضمّ علانية إلى السّتالينية، وسوف يكون من العبث البحث عن عالم اقتصاد جدير بهذا الإسم لننعته بالماركسيّ، بالمعنى الدقيق للكلمة.
يلاحظ الواحد، في رأس المال، استشعار الحقائق الكينيزيّة، وآخر يلاحظ تحليلا للملكية الخاصة او النظام الرأسمالي، ولا أحد يميل إلى مقولات ماركس أمام مقولات العلم البورجوازي حين يتعلّق الأمر بتغيير العالم الحاليّ.
وتظل الماركسيّة، في شكلها الأصليّ، حاضرة في الصراع الإيديولوجي في عصرنا هذا، إدانة الملكية الخاصة أو الإمبريالية الرأسمالية، والإعتقاد الجازم بأن اقتصاد السوق وهيمنة البورجوازية يسيران من تلقائهما لنهايتهما في اتجاه انتصار التخطيط الاشتراكي وسلطة البروليتاريا.
عصمة الحزب
إنّ الماركسية نفسها، هي حصيلة الطروحات الكبرى للفكر التقدّمي، تعلن انتماءها للعلم الضّامن للنّصر النهائي، وتشيد بالتّقنية التي ستقلب قطار المجتمعات الإنساني الأزليّ، وتتطلع الى العدالةمعلنة ثأر البؤساء، وتؤكّد أن حتميّة ما ستقود سير المأساة، لكن هذه الضرورة جدلية، تنطوي على التناقض بين الأنظمة المتلاحقة والقطيعة العنيفة للمرور من نظام الى آخر، والتوفيق النهائي بين الضرورات المتناقضة في الظاهر.
متشائمة في المدى القصير، متفائلة على المدى البعيد، تتكفل الماركسية بنشر الإيمان الرومانسيّ عبر تكاثر الانقلابات.
وكان هذا التحليل دائما جذابا أكثر من أن يكون صارما، وسنفهم صدفة الجمع بين المثل والواقع النهائي L'idéal et le réel .
وستجعل المادية الميتافيزيقية كما المادية التاريخة من هذه التوليفة بين الضرورة والتقدم شيئا غريبا إن لم يكن متناقضا، فلماذا هذا التَّرقي في عالم خاضع للقوى الطبيعية؟
لماذا يجب على التاريخ، الذي تحكم علاقات الإنتاج بنيته، أن يفضي الى مجتمع دون طبقات؟ ولماذا تحمل لنا المادة والاقتصاد، اليقين باكتمال اليوطوبيا؟
ستفاقم الستّالينية صعوبات الماركسية الداخلية بتشديدها على مادية مبتذلة وأكثر من ذلك إلغاء كل تصور للتطوّر التاريخي.
والتاريخ المقدّس الذي ستحرّره الماركسية من رقابة الأحداث المدنسة، سيسير من الشيوعية البدائية الى اشتراكية المستقبل: انهيار الملكية الخاصة، الاستغلال، صراع الطبقات، كلّ ذلك ضروري لتطور القوى المنتجة ورقيّ الإنسانية نحو درجة عليا من التحكمّ والوعي.، وستسرّع الرأسمالية في دمارها الذاتي بتراكم وسائل الانتاج والتوزيع اللاّعادل للثروات.
والوضع الذي سوف تندلع فيه الثورة سيكون لا سابق له: عدد ضخم من الضحايا، عدد ضئيل من المضطهدين، تزايد مفرط للقوى المنتجة...إلخ
وبعد الثورة البروليتارية لن يقتضي التقدم الاجتماعي ثورة «سياسية» أبدا.
خلقت ثورة 1917 الروسية، وإخفاق الثّورة في الغرب وضعية غير متوقعة ستجعل مراجعة النظرية ضرورية، وبما أن الحزب البرولتياري انتصر لأوّل مرة هناك حيث لم تكن شروط نضج الرأسمالية قد تحققت، علينا ان نعترف بأنّ تطوّر القوى المنتجة لا يحدّد لوحده حظوظ قيام الثورة، ولن ننقاد الى القول بأنّ حظوظ الثورة تتضاءل في الوقت الذي تتطوّر فيه الرأسمالية، وسنجبر على تعديل النظرية: تقوم الثورة في شكل ثورات تندلع بإرادة الظروف المتعددة، والحركة التي تسير من الرأسمالية الى الإشتراكية ستختلط وتاريخ الحزب البلشفي.
وبمعنى آخر، لنوفّق بين أحداث 1917 والنظريّة، وجب تجاوز فكرة أن التاريخ يقطع نفس المراحل في كلّ البلدان والقول أن الحزب البلشفي الروسي كان هو الممثل المؤهل للبروليتاريا.
وفي الاممية الثالثة، شكل تعريف البروليتاريا العالمية والحزب البلشفي الموضوع الاوليّ للإيمان، والشيوعي الستالينيّ أو «الماليكنوفي» هو قبل كلّ شيء الانسان الذي لا يفرّق بين قضية الاتحاد السوفياتي وقضية الثورة.
إنّ تاريخ الحزب هو التاريخ المقدّس الذي سوف يفضي الى خلاص الانسانية والحزب، بطريقة ما، لا يستطيع ويجب أن لا يخطئ بما انه يقول وينجز حقيقة التاريخ.
لم يضع لينين أبدا مهمّته موضع شك، والتي لا تنفصل، في نظره، عن النزعة الثورية للطبقة العاملة، أما النفوذ المطلق الذي يمارسه عدد قليل أو رجل لوحده على «طليعة البروليتاريا» يقضي على التناقض بين القيم المطلقة التي تعلّق بها الأقربون في الحزب وتحوّلات فعل انخرط في تاريخ دون بنية.
والحزب الذي دائما هو على صواب، يجب عليه في كل لحظة، أن يحدّد الخيط الفاصل بين الطائفية والانتهازية، فأين يتحدّد هذا الخيط الفاصل بالضبط.
لا أحد يعرف الى أين تمتدّ السلطة اللاّمشروطة للحزب، ففي عهد جدانوف ستالين، كان هذا الاخير يصوغ نظرية الفن، ويهتمّ باللّغويات ويقول الحقيقة عن الماضي والمستقبل، لكنّ «الحقيقة التاريخية» لم تكن عصيّة كما الان على هذا التأويل الخطّي.. مُحي اسم تروتسكي من حوليات الثورة وأصبح مؤسس الجيش الأحمر استعاديّا Rétrospectivement كائنا غير موجود.
أسطورة اليسار
هل مازال للمفاضلة بين اليمين واليسار من معنى؟ إنّ الذي يطرح مثل هذا السؤال يصبح مباشرة محلّ اتهام.
ألم يكتب آلان Alain :
«حين أٌسأل: أمازال للقطيعة بين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار، بين رجال اليمين ورجال اليسار من معنى؟ فإنّ الفكرة الأولى التي تتبادر الى ذهني أنّ الرجل الذي يطرح عليّ هذا السؤال هو بالضرورة ليس من اليسار»
... ومن جيل إلى آخر تتغيّر الشعارات والبرامج، واليسار الذي ناضل بالأمس من أجل نظام دستوري، أمازال يمتلك قاسما مشتركا مع ذاك الذي ينضوي في أنظمة الديموقراطية الشعبيّة؟
تكوّن اليسار في المعارضة، وحُدّد بأفكاره، يدين نظاما اجتماعيا غير كامل ككلّ حقيقة إنسانيّة.
أعطت الماركسيّة الصياغة التي تؤمّن الاستمرارية وتسجّل القطيعة بين يسار الأمس ويسار اليوم.. فهل هو من اليسار الشيوعيّ الذي يرى أنّ الاتحاد السوفياتي دائما على صواب؟ هل هم من اليسار أولئك الذين ينادون بالحريّة لجميع شعوب آسيا وإفريقيا، ولا ينادون بها للبولونيين أو الألمان الشرقيين؟؟
الإحالات
* Raymond Aron: L'opium des intellectuels Calman- Lévy, Editeurs. Paris. 1955


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.