«التكركير» وضعف الإنتاجية والغيابات هي أمراض مزمنة تصيب الإدارة التونسية وخدماتها المنهكة. لكن هذه الآفات تتعمق في شهر رمضان بنسب تقدّر ب30بالمائة مما يعطل مصالح المواطن. ويدخله في دوامة المماطلة وسياسة «ارجع غدوة». تونس (الشروق): عندما تقودك الضرورة إلى قضاء شؤون إدارية أو صحية أو مالية في إحدى المصالح الإدارية خلال شهر رمضان فإنك لا شك ستكتشف بمرارة حجم التقاعس الذي تغلغل في مفاصل مؤسساتنا العمومية والتي طالت بعض المؤسسات الأجنبية المنتصبة في تونس وفق شهادة ناشط في المجتمع المدني ذكر أن صديقه الأجنبي ذهب خلال هذا الشهر الفضيل لقضاء شؤونه في سفارة بلده في تونس. لكنه خرج منها وهو غاضب بشدة من «تكركير» موظفي السفارة. فمازحه صديقه قائلا إن عدوى التقاعس طالت الإدارات الأجنبية المنتصبة في تونس أيضا. عقلية تشير المعطيات الى أن التونسي عندما يعمل في بلد أجنبي فإنه من بين أفضل الموظفين انضباطا ومردودية فما الذي يجعله يكتسب هذه السمعة السيئة في بلده؟ لا يخفى على أحد أن دور الإدارة التونسية كان فاعلا إبان الثورة في بقاء الدولة واستمرارها. لكن التسيب والتعيينات العشوائية بعد الثورة أثرا كثيرا على مردوديتها. كما كان للتقاعس انعكاس على سلوك الموظفين العموميين وعلى مفاصل المرفق العمومي بما في ذلك المرافق الحيوية. ويصف عدد من الخبراء التقاعس والغيابات في الإدارة التونسية بأنه عقلية وجب العمل على تغييرها لأنه يكلف البلاد مليارات تهدر في مهب الريح في الوقت الذي يكون فيه المواطن في أشد الحاجة اليها. ولئن كان التقاعس سمة اختص بها التونسي على امتداد السنة فإنها تبلغ ذروتها خلال شهر الصيام. حيث تتحول الإدارات الى فضاء لاستعادة الانفاس من جراء السهرات المتلاحقة ليلا وقضاء حاجيات قفة رمضان نهارا فيصبح الموظف غير قادر على القام بأدنى مجهود. ويتعكر مزاجه جراء قلة النوم والافراط في السهر والأكل. وبالإضافة الى التقاعس وعدم الرغبة في العمل فإن أغلب الموظفين يسارعون الى مغادرة مقرات عملهم مبكرا إما لقضاء بقية حاجيات طاولة الإفطار أو لتفادي الاختناق المروري الذي يصاحب أوقات الذروة. فتتحول الطرقات منذ منتصف النهار الى حلبة تتسابق فيها السيارات ووسائل النقل العمومي. فالكل يسارع للعودة الى المنزل ونيل نصيب من الراحة استعدادا لسهرة عائلية جديدة. تراجع المردودية ويذكر أن بيانات جمعية "فرزا" وقراءتها تشكيات المواطنين من قلة جودة خدمات الإدارة قد كشفت ارتفاعا بنحو 30بالمائة في نسق عدم رضا المواطن عن خدمات الادارة في شهر رمضان خاصة في ما يخص الخدمات الصحية في المستشفيات والخدمات المالية بمراكز البريد والبنوك. كما كشفت نتائج دراسة أنجزها الاتحاد التونسي للمرفق العام وحياد الادارة خلال سنوات 2012 و2013 و2014 أن الإنتاجية تتراجع بنحو 50 بالمائة خلال شهر رمضان جراء تقلص عدد ساعات العمل إلى حوالي 3 ساعات فقط في اليوم. والمؤسف أن الأمور تتفاقم رغم وضع البلاد الحرج وحالة الاقتصاد المتدهورة وارتفاع نسب التداين وتراجع التنمية ونوايا الاستثمار. ويشار الى أن دور الإدارة التونسية يعدّ هاما. بل هوالمحدد الرئيسي للنمو الاقتصادي للبلاد ورفاه المواطن. والمعلوم أن تطور تونس وازدهار اقتصادها يتطلب إعلاء قيمة العمل وتغليب المصلحة العليا للبلاد بالإضافة الى الحفاظ على المرفق العمومي والرفع من أدائه وتجويد خدماته. ويرى المراقبون أن الارتقاء بالإنتاجية هي الوصفة الملائمة لإيجاد الحلول لكل الإشكاليات التي تعترض البلاد ولإنقاذ الاقتصاد والتوقي من أخطار الانتكاسة الاجتماعية والسياسية التي تهددها. كما أنه الضامن لتنافسية المؤسسة الاقتصادية وضمان ديمومتها في الأسواق الداخلية والخارجية. ويمكّن الترفيع في الإنتاجية ايضا من الاسهام في دفع التشغيل وجلب العملة الأجنبية وتمويل الزيادات في الأجور وتحسين القدرة الشرائية للأجراء بالإضافة الى دورها في الحد من التضخم وضمان استقرار الدينار التونسي. وللإشارة فإن جل الأزمات التي مرّت بها عديد دول العالم عبر التاريخ تم تجاوزها بفضل العمل والترفيع في الإنتاج كما وكيفا و تحسين المردود والجودة. وهو الحل الذي من المفروض أن يتبناه كل مواطن تونسي مهما كان موقعه سواء في القطاع الخاص أو العمومي. قيمة العمل يرى جل الخبراء أن ما تحتاج إليه بلادنا لتحسين الأوضاع داخل الإدارة هو أن تتحول قيمة العمل الى قاسم مشترك يجتمع حوله كل التونسيين وان يتغير سلوكنا نحو الإنتاج أكثر من توجهنا نحو الاستهلاك ذلك أن ضعف إنتاجية العمل ومردوديته خاصة في القطاع العام هو بالأساس ناتج عن عقلية لا تحترم قيمة العمل. وبالتالي فهو أعمق من أن يكون سلوكا فرديا. بل هو عقلية مستشرية مضادة للعمل. والمعلوم أن القطاع العام هو قاطرة الاستثمار والنمو فإذا ما أصابه خلل تعطل قطار الاقتصاد كله. والملفت للنظرأن «التكركير» و»الفصعة» لم تعد في مجتمعنا سلوكا منبوذا. بل ربما يراها البعض خصالا حميدة ودليلا على النجاح المهني والاجتماعي.ومن المؤشرات المفزعة ما نشرته بعض المصادر الرسمية التي أشارت الى أن نسبة الغيابات الادارية ببعض الادارات في تونس سنة 2012 و2013 بلغت 65 بالمائة. وقد قام فريق مراقبة تابع لهيكل الاصلاح الاداري بعد الثورة بمراقبة عدد من الادارات التونسية بمقرات العمل ولاحظوا أن نسبة الغيابات قد بلغت 37 بالمائة ببعض الادارات التونسية بتونس الكبرى وأن 33بالمائة فقط من الموظفين يعملون. واتضح أن بعض الادارات لا يوجد بها سوى عدد محدود من الموظفين وهو ما عطل مصالح المواطنين. وقد قدرت الخسائر بحوالي مليون و86 ألف يوم عمل بسبب الغيابات. هذه المؤشرات أفرزت بعض المبادرات في السنوات الأخيرة للسيطرة عليها والحد منها نذكر منها حملة «هانا جايين» في2015 و2016 لكنها حملات سرعان ما قبرت وعاد أهل الإدارة الى سالف عهدهم مع تسجيل عدد من الاستثناءات لأصحاب كفاءات في الإدارة التونسية مازالوا صامدين في مواقعهم. وتبقى الإدارة نواة مجتمعية مهمة. فالعلاقات التي تطبع المناخ الإداري يمكنها أن تطبع سلوك أفرادها خارجها. التوقيت الرسمي في رمضان توقيت العمل بالإدارات العمومية والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية يكون خلال شهر رمضان المعظم لسنة 2019 الموافق ل1440 هجريا على النحو التالي. - أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس: من الساعة الثامنة صباحا إلى الساعة الثانية والنصف بعد الزوال - يوم الجمعة: من الساعة السابعة والنصف صباحا إلى الساعة الواحدة بعد الزوال. طارق الشريف رئيس كنفدرالية مؤسسات المواطنة «كوناكت» .. رقمنة الإدارة هي الحل لا يخفى على أحد أن مردود الإدارة التونسية لا يرقى الى التّطلعات في الأيام العادية ويزيد التراخي استفحالا في رمضان. وهو ما يؤثر بصفة مباشرة في إنتاجية المؤسسات. والمعلوم أن الإنتاجية هي المحرك الأول للتنمية. فالتعطيل الإداري والتأخير لهما انعكاسات سلبية على نسب النمو المسجلة وعلى الاقتصاد عموما الذي تبدو مؤشراته الحالية غير مطمئنة. وهو ما ينعكس بالضرورة على رغبات الاستثمار. إذ في مثل هذه الظروف فإن العديد من المستثمرين سيتوجهون الى إيداع أموالهم في البنوك بدل الاستثمار مما ينعكس سلبا على خلق مواطن الشغل والنمو والاقتصاد عموما. وفي خصوص الحلول أعتقد أن من الأولويات الانخراط في رقمنة الإدارة. ففي دول العالم التي انخرطت في هذا المجال لا يوجد ليل ونهار لأن المعاملات لا تتوقف طيلة 24ساعة ومصالح المستثمرين والمواطن لا تتوقف. ثم أعتقد أن الحل الموالي يتمثل في تكوين الموظفين وتحسيسهم بأهمية عملهم في تطوير الاقتصاد ونسق حياة المواطن وتغيير العقليات البالية التي تقوم على تعطيل الخدمات والتسيب ثم دعم المراقبة للحد من التسيب في الإدارة التونسية وتعطيل مصالح المواطنين والمؤسسات... سهيل بيوض رئيس جمعية «فرزا» تراجع الخدمات الإدارية في رمضان يصل الى 30 ٪ تتراجع خدمات الإدارة التونسية في شهر رمضان بنسبة لا تقل عن 30بالمائة وفق شكايات وافدة على جمعية فرزا من المواطنين. وتتعلق الشكايات أساسا بغيابات الموظفين وسوء الاستقبال وضعف نجاعة الخدمات المقدمة بسبب عقلية «ارجع غدوة» وتطال تشكيات المواطنين خصوصا الإدارات العمومية وعلى رأسها المستشفيات التي تعرف تشنجا كبيرا في الاستقبال خاصة في الساعات التي تسبق موعد الإفطار. وتظهر الاحصائيات أنه خلال الأسبوع الثالث من رمضان يرتفع عدد المرضى في المستشفيات بنسبة تناهز 30بالمائة وذلك بسبب عدم قدرة التونسي على التعامل الجيد والمفيد مع الصوم بسبب العادات الغذائية السيئة. وتشمل الأمراض بالخصوص أمراض المعدة والدم والسكري والقلب. ويتواصل ارتفاع حالات تعكر صحة المصابين بهذه الأمراض الى حدود شهر بعد رمضان مما يزيد في طلب الخدمات الصحية على المستشفيات ويزيد في اكتظاظها وتدهور خدماتها وذلك بسبب العادات الغذائية السيئة التي ينتهجها التونسي في شهر رمضان. وهي الإفراط في الأكل وتناول السكريات والدهنيات.. وفي خصوص الإدارات الأخرى التي وصلتنا في شأنها شكايات نذكر أيضا مراكز البريد التي يكثر عليها الإقبال في النصف الثاني من رمضان بسبب معدل إنفاق التونسي الذي يرتفع خلال هذا الشهر بين 50الى 100بالمائة مقارنة بباقي الأشهر. وبما أن مكاتب البريد تقوم بدور مالي كبير في الأحياء الريفية والشعبية والنائية فإن الطلب عليها يتضاعف خلال الأسبوعين الأخيرين من رمضان. وقد لمست الجمعية أن مكاتب البريد تقوم بدور هام لتقديم الخدمات للمواطن من ذلك أن مكاتبها تفتح أيام الآحاد والسبت التي تسبق العيد. لكن مازالت خدماتها في حاجة الى التعزيز. كذلك وردت شكايات من المواطنين بشأن خدمات البنوك. ويفسر ذلك بأن إنفاق التونسي يزيد خلال هذا الشهر. وبالتالي فإن الطلب على السيولة يتضاعف وفي المقابل فإن مردودية الإدارة تتراجع بسبب الصوم وأجواء السهر في رمضان وتغير السلوك الغذائي.. وفي خصوص الحلول التي تقترحها الجمعية للحد من هذه الظاهرة في رمضان هي إقرار الحكومة مخطط تدخل استعجالي خاص في رمضان وتعزيز قدرة الوحدات الطبية وتكثيف الحملات التحسيسية للسلوك الغذائي السليم أثناء شهر الصيام وتدعيم الخدمات البنكية والبريد بمتربصين يؤطرهم متقاعدون لتأمين الخدمات في الإدارات التي تشهد ضغطا في رمضان حتى لا يتم تعطيل مصالح المواطنين.